عجوز بالكاد يمشي، يصل إلى إحدى صيدليات العاصمة، وقد أعياه التعب، يدخل لدقائق، ثم يخرج خائبًا، وفي يده قصاصة صغيرة مقتطعة من كرتونة دواء أظهرت اسم الدواء، أسأله إذا وجد طلبه، فيجيب "هيدي الصيدلية رقم عشرين يلي بزورها اليوم، بدي هالدوا للحجة، عندا سكري، ما لقيتو، قلتلو بدفعلك قد ما بدك معي مصاري، قلي: مش قصة مصاري، الدواء مفقود، بعد ما سلمونا...الله يعينا يا بنتي".
هذه القصّة وقصص كثيرة مشابهة في النهايات الحزينة، عاينتُها خلال وقوفي لوقت قصير، لا يتعدّى الثلاثين دقيقة، أمام إحدى الصيدليات. هناك يتواطأ القهر مع المرض، فتشعر أنّ عقابًا جماعيًا أو لعنة إلهيّة قد حلت بالشعب اللبناني، فأحالته باحثًا عن دواء، تمّ شراؤه بأمواله المحتجزة في المصارف، ثم باعه تجّار الصحة وهرّبوه إلى الخارج، طمعًا بتحقيق أرباح خياليّة، أو خزّنوه إلى زمن رفع الدعم، واليوم سيحققون أرباحًا إضافية، ببيع الأدوية المخزّنة وفق أسعارها الجديدة، التي ارتفعت ما بين 6 و8 أضعاف.
مواطن آخر يقول "وجدت دوائي، ولكن سعره تضاعف مرّات عدّة ، كنت اشتريه بـ 12 ألف ليرة، وبعد رفع الدعم أصبح بـ 72 ألف ليرة. لم يكن الصيدلي يعطيني أكثر من ورقة واحدة من العلبة، اليوم يبيع العلبة كاملة".
الصيدليات فتحت أبوابها صباح الإثنين، لاعتقادها أنّ الشركات ستعمد إلى تسليمها الأدوية، لكن ذلك لم يحصل، وفق ما أكّد لنا أكثر من صيدلاني، وبظل عطلة عيد الأضحى ستُرجأ عملية تسليم الأدوية. علمًا أنّ المشكّلة تتخطّى فرصة العيد، إذ أنّ أزمة شح الدواء ستبقى قائمة بعد رفع الأسعار، وهنا تكمن الخطورة، بحيث أنّ شركات استيراد الأدوية لن تقبل بتخفيض هامش الربح، ثم كيف لها أن تؤمّن دولارات من السوق الموازية بـ 22 ألف وتعمد لبيع الدواء وفق دولار 12 ألف. من ناحية ثانية سقف الـ 50 مليون دولار شهريًا، المحدّدة من مصرف لبنان لاستيراد الأدوية، لن تكفي لاستيراد حاجة السوق بعد رفع الأسعار. انطلاقًا من هنا، وصفت مصادر طبيّة قرار وزارة الصحة، وقرارات لقاء بعبدا الاثنين الذي بحث في أزمة الدواء، بالعشوائية والإرتجالية.
في قرارات بعبدا، جمل إنشائية ضبابية، تقول المصادر، من ضمنها بند عن "صرف الادوية المدعومة من خلال البطاقة الدوائية الممكننة، والمشروع مموّل من الشركات العالمية" من يقرأ هذه الجملة، يخال أنّ في لبنان بطاقة دوائية ممكننة فعلًا، بينما تلك البطاقة مجرد فكرة، طرحها رئيس لجنة الصحة النيابية الدكتور عاصم عراجي، وقد تحتاج سنوات ضوئية لتنفيذها. بند آخر يتحدث عن "السعي إلى إيجاد صندوق دعم المريض من جهات دولية"، و"السعي" المفترض هذا يتحدث عن نفسه، إذ كيف يعالج المسؤولون عن ملف الدواء أزمة فقدان الأدوية بنوايا لا تقترن بأي آليات تنفيذية.
في قرارات بعبدا ورد التالي "الصناعة الدوائية المحلية وتفعيلها ضرورة ملحة في ابعادها الوطنية والاقتصادية، ضمن سياق اعتماد نهج الاقتصاد المنتج". هذا العنوان الإنشائي، كفيل وحده بكشف مدى الإنفصام والفشل، الذي يطبع أداء من يفترض أنّهم مسؤولون عن حلّ معضلة شح الدواء، التي باتت تهدد حياة المواطنين، وكفيل وحده بإدراك حجم انكشاف اللبنانيين صحيًا ودوائيًّا، وكيف أنّهم متروكون لقدرهم، وسط مجموعة من الفاشلين.
الأخطر من كل ذلك، وفق المصادر، أنّ قرارات بعبدا غطّت المغالطة الكبرى التي مررها وزير الصحة حمد حسن بحجة الأزمة، بفتح الباب للإستيراد الطارىء والموازي، وبعبارة أكثر واقعية بفتح الباب للدواء الإيراني، وبغياب آليات التأكد من جودة الدواء، وأبرز دليل، ما حكي عن إصدار وزارة الصحة مئات التراخيص لاستيراد الدواء الإيراني والسوري، وذلك قبل الاعلان عن فتح المجال أمام طلبات الترخيص، وهو الأمر الذي لم ينفه الوزير حسن.