يومًا بعد يوم، تتوسّع "المأساة اللبنانية" فصولاً، وتتعمّق المعاناة، وتزداد الكآبة. هو واقعٌ مُرّ لم يعد خافيًا على أحد، بعدما باتت وجوه اللبنانيّين عاجزة عن إخفائه، هم الذين ما عادوا قادرين على النوم ليلاً وسط الظلام الحالك، ولا على التنقّل بأمان وأريحيّة نهارًا، وسط "طوابير" تنتقل من قطاع إلى آخر، و"كوارث" لا تنتهي..
في الأيام القليلة الماضية، تنوّعت "ترجمات" الكابوس اللبنانيّ، حتى باتت أكثر من أن تُعَدّ أو تُحصى. عادت "الطوابير" إلى محطّات المحروقات، وتمدّدت إلى محال بيع الغاز، ووصلت إلى الأفران، ولم تَغِب عن الصيدليّات، فيما تناوب المعنيّون على الإطلالات الإعلاميّة، ليؤكّدوا المؤكّد: الانهيار لم يبدأ بعد، والآتي أعظم.
ترافق ذلك مع استمرار "التبشير" بالكوارث والمصائب الآتية. في المستشفيات، دقّ المعنيّون جرس الإنذار، بعدما تجاوزت أزمة نفاد المازوت الخطوط الحمراء، لدرجة أنّ حياة المرضى المهدَّدين بانقطاع الأوكسيجين في أيّ لحظة باتت في خطر جدّي وحقيقيّ، في وقتٍ بدأ كثيرون يطلبون "رفع الدعم" إذا كان الحلّ، رغم الفقر المدقع.
أين المسؤولون؟
اجتمع المجلس الأعلى للدفاع، بغياب رئيس حكومة تصريف الأعمال. قيل إنّ "الضرورات" أباحت "المحظورات"، فالأزمات المعيشية لا تحتمل انتظار انتهاء "حجر" الرجل، لكنّها لم تُبِح، ولو لمرّة، الإفصاح عن قراراته التي بقيت سرّية، فيما تسرّبت معطيات عن أحدها، وهو رفض منح الإذن بملاحقة المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا.
إلى هذا الاجتماع "اليتيم"، رُصِد اللقاء "الإيجابيّ" بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلّف نجيب ميقاتي، والذي تمخّضت عنه أجواء "ودّية". لعلّها "بقعة الضوء" الوحيدة في هذا "النفق"، إذا ما صدقت المعطيات التي تحدّثت عن "تقدّم ملموس" تمّ إحرازه، على طريقة "تثبيت القديم على قدمه"، قد يؤدّي إلى ولادة الحكومة التي طال انتظارها، والتي بات الجميع يتعامل معها على أساس أنّها "الفرصة الأخيرة" التي قد لا تتكرّر في المدى المنظور.
لكن، أبعد من ذلك، بقي الشعب وحيدًا في "مصائبه". لا أحد ينظر إلى حاله وما وصل إليه. بين الفقر والغلاء الفاحش، لم يعد قادرًا على فعل شيء، سوى "التأقلم" مع الكوارث، التي تلاحقه من كلّ حدب وصوب، من دون القدرة على الرهان على "ضمائر" مسؤولين، لم ينجح انفجار مرفأ بيروت، بكلّ ما حمله من وحشيّة، على تحريكها وإيقاظها، وما زالوا حتى يومنا هذا، يبحثون عن "المغانم" في أيّ مشروع، قبل أيّ شيء آخر.
سجالات "دونكيشوتيّة"!
لا يبدو مثل هذا الكلام "عبثيًا" أو "اعتباطيًا"، إذ إنّ مجرد الاطّلاع على بعض جوانب السجالات "الدونكيشوتية" التي شهدتها الساعات الأخيرة يكفي لأخذ فكرة عن "سرياليّة" المشهد. فعلى خلفية جلسة مجلس النواب التي دعا إليها رئيس البرلمان نبيه بري، وقاطعتها العديد من الكتل البرلمانية، وجرى ارجاؤها لعدم اكتمال النصاب، انشغل السياسيّون بالبحث عن "جنس الملائكة"، لتحديد ما إذا كانت "دستوريّة وشرعيّة"، أم "باطلة" بكلّ بساطة.
لم يكتفِ السياسيّون ببحث هذا "التفصيل"، بل "استعرضوا" على جري العادة قدراتهم الخطابيّة والبلاغيّة، فصدرت البيانات والبيانات المُضادة، التي أخذت دور "التنظير" حول العمل البرلماني والنيابي وأصوله وقوانينه، حيث حضرت مصطلحات "غبّ الطلب" من نوع "احترام العقول"، و"تعمّد الكذب"، وغيرها من باب تسجيل النقاط والمكاسب بكلّ بساطة، كأنّ الظروف مثاليّة، أو حتّى عاديّة.
لكن، خلف كلّ ذلك، ثمّة من قرأ "مبارزة" أخرى بين النواب على "الشعبويّة"، ففريق مقاطعي الجلسة سجّل على "عرّابيها" السعي إلى "لفلفة" التحقيق بانفجار مرفأ بيروت، ومحاولة لكفّ يد المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، فيما سجّل المؤيّدون على هؤلاء كيف يدعون إلى "رفع الحصانات" بالكامل، ويغطّون في الوقت نفسه قرارًا برفض منح القاضي البيطار الإذن بملاحقة إحدى الشخصيات، في القضية إياها!
هذا الموضوع ليس أكثر من تفصيل في المشهد الذي كرّس أنّ الناس في وادٍ، ومعظم السياسيّين في وادٍ آخر. الناس تعبت ولم تعد قادرة على التحمّل، والسياسيّون لا يزالون يتفنّنون في الخطابة، وكأنّنا في "بازار" انتخابي. كلّ ذلك لا يهمّ اليوم. ما يهمّ الناس هو أن تولد الحكومة التي تستطيع إعادة البلاد إلى الصراط المستقيم. فهل من إرادة حقيقيّة لتأمين ذلك؟.