في مقابلته التلفزيونيّة الأخيرة، كان الرئيس المكلَّف تشكيل الحكومة نجيب ميقاتي حاسمًا وحازمًا بأنّ "الاعتذار" ليس على "أجندته" في الوقت الحاليّ، وأنّ تركيزه منصبٌّ، حتى إشعار آخر، على إنجاح مهمّته، وبالتالي تأليف الحكومة التي يتطلّع إليها جميع اللبنانيين، الذين يتأمّلون أن تحمل معهم "انفراجًا"، ولو بسيطًا، للأزمات المتفاقمة.
بهذا الكلام، كان الرئيس المكلَّف يردّ على "التكهّنات" المفرطة في التشاؤم، التي ذهبت لحدّ "تغليب" منطق الاعتذار على التأليف، بل ضرب مواعيد له، وكأنّه أصبح "أمرًا واقعًا"، ولو أنّ أصحابها استندوا إلى ما سبق للرئيس ميقاتي نفسه أن أكّده، وأعاد التأكيد عليه مرّة أخرى في مقابلته الأخيرة، لجهّة أنّه لن يقبل أن "يحتجز" ورقة التكليف في جيبه إلى ما شاء الله.
لكن، إذا كان الرئيس ميقاتي استبعد اللجوء إلى هذا الخيار في الوقت الحاليّ، فإنّه لم يُلغِه بالمُطلَق، خصوصًا أنّه تحدّث بالصراحة نفسها أيضًا عن الكثير من العقبات والمشاكل، التي قال إنّ رئيس الجمهورية "يعيها جيّدًا". فما صحّة الحديث عن أنّ ميقاتي يمهّد لـ"اعتذار" قد يأتي بعد حين؟ وماذا لو صحّت هذه الفرضية؟ أيّ تبعات لمثل هذا الاعتذار على الوضع العام؟
لا مصلحة
في المبدأ، لا نقاش في أنّ "اعتذار" الرئيس ميقاتي عن استكمال مهمّته، ليس في مصلحة أحد على الإطلاق، لا سيّما بعدما دفع البلد "ضريبة ثقيلة" للمماطلة والمراوحة التي امتدّت لعامٍ كامل، فشلت فيها كلّ محاولات تشكيل حكومة جديدة خلفًا للحكومة المستقيلة، رغم كثرة الاستحقاقات المفصليّة.
ولا شكّ أيضًا أنّ مثل هذا الاعتذار لن يكون أبدًا لصالح "العهد" الذي يخسر الكثير من رصيده مع كلّ يوم تأخير في تشكيل الحكومة، والذي بات "مُحرَجًا" أمام الرأي العام، بعدما عجز عن "التناغم" مع كلّ الرؤساء المكلّفين، في حين أنّ علاقته مع رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، الذي كان هو من أتى به أصلاً، باتت بدورها أسوأ من السيئة.
ولا يخفّف من وقع ذلك محاولات بعض وجوه "العهد" ورموزه المغالاة، أو حتى القول بأنّ "صلابة" رئيس الجمهورية هي الدافع وراء كلّ "الاعتذارات"، علمًا أنّ الرئيس المكلَّف أيضًا لا يجد "مصلحة" في الاعتذار، قبل "استنفاد" الفرصة السانحة كاملة، لا سيّما أنّه يردّد باستمرار أنّه قبل التكليف للإنقاذ، وليس لهدر الوقت أو الاعتذار.
تداعيات "كارثيّة"
لكن، بعيدًا عن لغة "المصلحة"، فإنّ الأكيد أنّ تبعات اعتذار الرئيس المكلّف وتداعياته ستكون "كارثيّة" على البلد ككلّ، ولو أنّ البعض يردّد أنّ الخيارات الدستورية تبقى مُتاحة، فإذا اعتذر الرئيس المكلَّف، تتمّ الدعوة إلى استشارات نيابية ملزمة جديدة تسمّى شخصية جديدة على إثرها، وثمّة من يراهن على شخصية محسوبة على "العونيّين" مباشرة هذه المرة تفاديًا لتكرار "سيناريو" محطّات التكليف السابقة.
إلا أنّ "المعضلة" الكبرى تكمن هنا تحديدًا، حيث تشير الكثير من المعطيات إلى أنّ عجز ميقاتي عن التأليف من شأنه أن "يفرمل" اندفاعة أيّ شخصيّة سنّية، طالما أنّها لا تحظى بدعم رؤساء الحكومات السابقين ومباركة دار الفتوى، وطالما أنّ أحدًا ليس في وارد "استنساخ" تجربة حسّان دياب، التي "انقلبت" على عرّابيها، إن جاز التعبير، فضلاً عن حلفاء "العونيّين" وشركاءهم في الأكثرية لن يكونوا بهذا الوارد.
وبمُعزَل عن "التعقيد" الذي سيصيب العملية الدستورية لتسمية رئيس مكلَّف جديد، فإنّ السؤال الأكبر الذي ينبغي أن يطرحه الجميع يبقى: هل يتحمّل البلد كلفة "اعتذار" الرئيس المكلَّف، في ظلّ الأزمات المتفاقمة، والتي ثبُت أنّ كلّ محاولات علاجها بعيدًا عن حكومة أصيلة وقادرة على اتخاذ القرار لا تجدي ولا تنفع، ولن تكون في أحسن الأحوال أكثر من "مسكّنات" سرعان ما يتبيّن أنّ أضرارها على المدى الطويل أكثر من منافعها قصيرة الأمد؟!
لعلّ الرئيس المكلَّف يضع كلّ هذه الاعتبارات في حساباته حين يؤجّل خيار الاعتذار، وإن بقي مطروحًا على قاعدة "آخر الدواء الكيّ". هو لا يريد أن يصل إليه، رأفةً بالوطن والعباد الذين ما عادوا قادرين على تحمّل المزيد من الأضرار، لكنه لا يريد أيضًا أن يصبح مسؤولاً عن "تمديد" الأزمة. فهل تصل "رسالته" إلى المعنيّين، ليتداركوا قبل فوات الأوان أزمة قد لا تكون محسوبة، وتطيح بكلّ ما بقي "صامدًا" في هذا الوطن؟!