من يتابع الأجواء الإيجابية لتي تسرّبها جهات معروفة الغايات يعتقد أن الحكومة ستبصر النور في أقرب وقت ممكن. قد يكون هذا الأمر طبيعيًا لو إفترضنا أن من يطلقها حسن النيات، ولكن في مثل هذه الظروف المأسوية التي يعيشها لبنان فإن الإفراط في التفاؤل غير الواقعي يُدخل إلى النفوس الياس أكثر من اليأس نفسه.
كان يُفترض أن تحلّ الإيجابيات مكان السلبيات منذ اللحظة الأولى التي تقدّم بها الرئيس المكّلف بتشكيلته الحكومية، التي رأى فيها فريق عمل متجانسًا، تاركًا المجال للتشاور مع رئيس الجمهورية لإضافة بعض التعديلات الممكنة والمنطقية في بعض الحقائب والأسماء، وأبدى كل إيجابية تتناسب مع دّقة الأوضاع وضرورة أن تتشكّل الحكومة بأسرع وقت ممكن لكي تنصرف إلى ما ينتظرها من عمل، وهو كثير، بحيث سيحتاج الوزراء إلى 24 ساعة عمل يوميًا.
هذا من حيث المنطق المفروض أن يسيّر العمل المنتظر من المسؤولين. أما ما بين ما هو منطقي ونظري وبين الواقع فرق شاسع. فالمنطق يقول أن الوقت الضيّق لا يسمح لأحد بأن يناور بدلًا من أن يحاور، ولا يسمح أيضًا بالإصرار على هذه الحقيبة دون سواها. وما الإصرار سوى تأكيد المؤكّد بأن ثمة قطبة مخفيّة يُراد من خلالها الوصول إلى المطارح التي لا يمكن الوصول إليها سوى بالتوافق وشبه الإجماع بين كل من رئيس الجمهورية والرئيس المكّلف. وما سوى ذلك إنما يُدخل لبنان في نفق المحاصصات المرفوضة، شكلًا ومضمونًا، خاصة في هذه الظروف الصعبة، التي تفرض على المسؤول أن يبدّي المصلحة الوطنية على مصالحه الخاصة. وقد رأينا بأمّ العين إلى أين أوصلتنا هذه السياسات، التي إتّبعت على مدى سنوات. فلم يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وكان الإنهيار. وأكبر دليل على ذلك ضياع المسؤوليات في ملف إنفجار المرفأ.
يستغرب بعض المتعاطين بالشأن الحكومي من الخارج، والذين قلبهم على لبنان أكثر من بعض المسؤولين في الداخل، هذه المماطلة في تأليف حكومة التي هي مطلب الجميع، وهي البوابة الإلزامية للعبور إلى إيجاد حلول ممكنة لهذا الكمّ الهائل من المشاكل التي إنصبّت على رؤوس اللبنانيين دفعة واحدة.
ألم يطّلع هؤلاء المسؤولون على التقرير الذي أعدّته منظمة "الإسكوا" عمّا آلت إليه حال اللبنانيين، بعدما وصلت أرقام الذين أصبحوا تحت خطّ الفقر الى مستويات مخيفة ومرعبة ومقلقة في آن؟ ألا يشاهدون طوابير الذّل أمام الأفران ومحطّات الوقود؟
وللدلالة على أن المسؤولين الذين ينامون على سبع خرزات من ظهرهم في وادٍ، وأن الناس الذين يُذّلون كل دقيقة وهم يتقلبون على جمر وجعهم في وادٍ آخر، أورد هذه الحادثة، وقد حدثت بالفعل، وأنا شاهد عليهأ.
تقول الرواية أن عاملًا لبنانيًا في منتصف عمره، كان يخدم عند أحد السياسيين المعروفين بوقارهم وهيبتهم، وكان يقدّم القهوة لضيوف هذا السياسي، وهم كثر. إستجمع قواه وقرّر مرّة أن يفاتح هذا السياسي بأمر راتبه المتدني وإمكانية رفعه قليلًا ليتناسب وحجم غلاء المعيشة في ذاك الزمان- ذات القصة من زمان. وعندما طلب منه هذه "الزودة" سأله السياسي: كم هو راتبك؟ فأجابه: مئة ليرة. فكانت ردّت فعل السياسي: وهل تصرفها كلها؟
وهكذا بقي راتب هذا العامل على حاله، لأن "البيك" كان يعتقد أن مئة ليرة في ذاك الزمان هي أكثر من كافية لمعيشة هذا العامل طيلة الشهر له ولعائلته، لأنه بكل بساطة لم يكن يعرف ما هو سعر ربطة الخبز مثلًا.
أوردت هذه الحادثة، على "طرافتها" وواقعيتها، لتبيان أن الزمن لم يتغّير بالنسبة إلى عدم تحسّس المسؤولين بما يعانيه الشعب. ولو فعلوا لكان عندنا اليوم حكومة قبل الغد، ولما أصرّ المصرّون على أن تكون بعض الحقائب من حصّتهم.
نأمل أن يكون تفاؤل المتفائلين في محله هذه المرة.