أبصرت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي النور، بعد شهر ونصف على تكليفه مهمة التأليف، بظلّ مرحلة هي الأكثر حراجة على المستويات المالية، الإقتصادية، المعيشية، عكسها ميقاتي في كلمته المرتجلة من بعبدا بعد التأليف.
صحيح أنّ الحكومة تشكّل "مفتاح معالجة الأزمات الإقتصادية والمالية والإجتماعية" كما قال مسؤول الشؤون الخارجية في الإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، لكن الواقعية تقتضي الإعتراف بأنّ حجم الأزمات أكبر من يعالج بعصا سحرية. التحدي الأكبر أمام الحكومة يكمن بعقلنة الدولار، خصوصًا أّنّ منحاه التصاعدي أفقر اللبنانيين، وأفقد الموظفين قدرتهم الشرائية، وضرب مجمل القطاعات، وفي مقدمها القطاع الإستشفائي.
كما كان متوقّعًا هبط سعر الصرف بسرعة قياسيّة في السوق الموازية، مع تصاعد الدخان الأبيض من بعبدا، ليلامس عتبة الـ 15 ألف ليرة، وهو أدنى معدّل وصله خلال أشهر. حصل ذلك ليؤكّد أنّ سعر الصرف الذي تجاوز عتبة الـ 22 ألفًا، مبالغ فيه ولا يعكس السعر الحقيقي للدولار، وأنّ المسار السياسي المأزوم انعكس سلبًا على الليرة. في فترة بعد الظهر شجع الإنخفاض الناس على معاودة الشراء، فعاد وارتفع إلى حدود 16150. السؤال، إذا كان دولار التأليف 15 ألفًا، كيف سيكون عليه دولار ما بعد التأليف؟ هل سيواصل المنحى الإنحداري؟ إلى أي مدى سيبلغ؟ وما هي العوامل التي تحدّد مساره؟
"يضرب بعلم الغيب من يعطي توقّعًا حول مسار الدولار" يقول الخبير المالي والمصرفي ومستشار اتحاد المصارف العربية بهيج الخطيب في حديث لـ "لبنان 24"، وذلك لعدّة عوامل، منها أنّ الدولار في لبنان هو دولار سياسي "لم يكن ليقفز من 1500 إلى 22 ألفًا من دون الصراع السياسي الحاصل، طبعًا هذا لا ينفي واقع نضوب السيولة من المصارف، والعجز المثلث الأضلاع في الموازنة والميزان التجاري وميزان المدفوعات. ثمن العجز، تُرجم حكمًا في هبوط سعر صرف الليرة بهذا الحجم الدراماتيكي. لكن لم يكن السعر ليقفز إلى هذا المستوى من دون الصراع السياسي الذي شهده البلد، والذي غاب معه أي أفق لنهايته".
يضيف الخطيب "اليوم، تُرجم الحدث الحكومي الإيجابي بتراجع سعر صرف الدولار، لكن أيّ مستويات سيبلغها هذا التراجع، هل سيقف عند حدود الـ 15 ألفًا أو 12 أو 10 الآف، هذا يتوقف على الخطوات التي ستقوم بها الحكومة، كلما قامت بخطوات إصلاحية جدّية، وحظيت بثقة كلّ من المجتمع المحلي العربي والدولي، كلما تراجع سعر صرف الدولار. الواقع الجديد لسعر الصرف وللقوة الشرائية له، قد يكون بحدود الـ 10 الآف ليرة، وربما أكثر أو أقل بقليل، ولكن ليس اليوم، بل الوصول إلى هذا المستوى يحتاج إلى وقت، في حال سارت الحكومة في الطريق التي تخدم مصلحة الإقتصاد الوطني".
فضلًا عن تأثير العامل السياسي على مسار الدولار، هناك مؤشّرات مالية واقتصادية تتحكّم بمساره، بظل نضوب احتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية، وفقدان الثقة. وفق قاربة الخطيب، منذ البداية كان واضحًا أنّ العوامل التي تخفض الدولار، تبدأ بتأليف حكومة، وهذا ما حصل، والنقطة الثانية تكمن بوضع الوزراء المختصين في الحكومة، لا سيّما وزيري المال والإقتصاد، مع رئاسة الحكومة خطّة للإصلاح الإقتصادي والمالي والنقدي، واقعية متجانسة وقابلة للتنفيذ. وسؤالي إلى أي مدى يمكن أن يضعوا خطّة قابلة للتنفيذ، تحظى بموافقة الحكومة مجتمعة، والجهات المانحة وفي مقدمها صندوق النقد الدولي. من شأن ذلك أن ينعكس ضخًا للسيولة في شرايين الإقتصاد اللبناني أولًا، ومن ثّم في شرايين القطاع المصرفي، ما يجعل العجلة الإقتصادية تتحرّك، وكذلك المصرفية، وتبدأ بعدها الناس باستعادة الثقة شيئًا فشيئًا في القطاع المصرفي".
التحدي الأكبر وفق الخطيب يكمن بالوصول إلى تحقيق توازن في الموازنة "إذ لا يمكن أن نمضي في مسار العجز، الذي بلغ في الموازنة حوالي ألف مليار ليرة شهريًا، يقابله طبع للأموال من قبل مصرف لبنان، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الكتلة النقدية وارتفاع معدلات التضخّم وإرتفاع الأسعار". في السياق يسأل الخطيب كيف يمكن تحقيق التوزان في الموازنة، بظل انهيار سعر صرف الليرة، وتآكل مداخيل ورواتب الموظفين الذين يشكّلون 10% من حجم عدد سكان لبنان، وهل يسمح هذا الواقع بفرض ضرائب جديدة أو استجلاب إيرادات جديدة أو ضغط كبير في النفقات؟ "من هنا تبدو المعادلة قاسية وصعبة، تتمحور حول كيفية الخروج من الحلقة المفرغة لعجز الموازنة والخزينة، وكيفية إعادة القدرة الشرائية للموظف بالدرجة الأولى والمواطن بشكل عام، ليتمكّن من الصمود. كيف ستجيب الحكومة على هذا السؤال، سنتتظر لنرى".
لبنان أمام فرصة حقيقية للنهوض من قعر الهاوية، عسى أن يلتقطها الجميع، بعمل حكومي متناغم ومنتج، خصوصًا أنّ الوقت المتاح لا يسمح بمناورات من هنا وهناك.