حتى الآن، لم تحسم العديد من الأطراف السياسية خياراتها حول كيفية التعاطي مع انكفاء تيار "المستقبل" عن المشهد السياسي القائم. فاليوم، يسعى كلّ طرف إلى استغلالِ هذا الإنكفاء لتحقيق مكاسب معيّنة، في حين أن الهدف الأكبر هو تجيير أصوات الطائفة السنية باتجاه جديد لم يكن محسوباً من قبل.
في الشكل والمضمون، يعتبرُ ابتعاد تيار "المستقبل" ضربة لحلفائه في الدولة، مثل الحزب "التقدمي الإشتراكي" وحركة "أمل" وأيضاً "القوات اللبنانية"، إذ أن هذه الأطراف برمّتها خسرت جهة كانت تؤازرها في القرارات المصيريّة والانتخابية. ولكن السؤال الذي يُطرح اليوم بشكلٍ أساسي: ماذا عن "حزب الله"؟ ما هو تأثير انكفاء تيار "المستقبل" عليه وكيف سيتعاطى مع ابتعاد الرئيس سعد الحريري عن الواجهة؟
في الواقع، ورغم أن "حزب الله" لم يُعلّق بشكل رسمي على قرار الحريري بشأن مسيرته السياسية، إلا أنّه يعتبرُ من المتضررين الأوائل من هذه الخطوة. وبدون أي منازع، خسر "حزب الله" جهة كان يتحاور معها بشكل ضمني بشأن الملفات الأساسية التي تعنيه. أما الأمر الأساس فهو أن ربط النزاع بين الحزب وتيار "المستقبل" بات مُهدداً بالاستمرار في حال حلّ بديلٌ جديد لا يشاء استمرار التهدئة ويطمح لاندلاع فتنة جديدة بين الطائفتين السنية والشيعية.
لاعتبارات عديدة، يُدرك "حزب الله" تماماً أن الحريري استطاع خلال السنوات الماضية ضرب أي محاولةٍ لإشعال الجبهة الطائفية مع "حزب الله"، وهو الأمر الذي يعتبرُ من المآخذ ضده عند بعض الأطراف. وعليه، فإنّ غياب الحريري يمكن أن يساهم في محاولات استغلال جديدة لتحريك الشارع السني ضدّ "حزب الله"، لاسيما أنه ما من قيادة واضحة اليوم لذلك الشارع وسط انعدام البدائل الصريحة، الواضحة والشفافة والتي قد تأخذ خيارات عبثية.
مع هذا، يقول مراقبون أن مسألة انكفاء تيار "المستقبل" قد تكون مقدّمة للانقضاض على "حزب الله" من بوابة كسرِ الجهة التي كانت تغطّيه بشكل غير مباشر. وهنا، يرى المراقبون أن تغييب "المستقبل" قد يؤثر تماماً على وجود "حزب الله" ككيانٍ قوي، وهذا الأمر قد يكون مرتبطاً بمعادلات إقليمية جديدة قد تفرض نفسها بأي لحظة. وهنا، قد يكون مشروع استهداف وجود "حزب الله" قد بدأ من خلال تحييد "المستقبل"، في حين أن وجهات النظر الأخرى تشيرُ إلى أن القرار الخاص بأي معركة ضدّ الحزب قد لا يحتاجُ أبداً إلى جهة سنية تنخرط فيها، ولهذا كان القرارُ بانكفاء "المستقبل" هو البداية على هذا الصعيد.
بالنسبة لوجهة نظر أخرى، قد يكون غياب الحريري عن الساحة مقدمة لضغط أكبر للإثبات بأنّ تيار "المستقبل" هو الورقة الأنجح والأقوى في لبنان، وعبرها يمكنُ الإمساك بالطائفة السنية والحفاظ عليها وسط محاولات جهات عديدة إطلاق يدها ضمن الطائفة للسيطرة عليها مالياً وسياسياً وشعبياً. وهنا، فإن الصورة ستتوضح بشكل أكبر خلال فترة الانتخابات النيابية التي، إن حصلت، ستعكس التوجهات التي ستشهدها الطائفة السنية، في حين أن الأمر الأخطر هو غيابُ وجوه معتدلة ووسطية ضمن الطائفة، عن الاستحقاق المقبل.
إذاً، تركز المعركة اليوم حول كيفية الحفاظ على اصطفافِ الطائفة السنية باتجاه خيارات "المستقبل" غير الصدامية، وهذا ما تقرّ به فعلاً مصادر مقربة من "حزب الله" التي قالت لـ"لبنان24" إنّ "الحزب يعتبر حتى الآن أن الحريري هو الزعيم السني الأول في لبنان"، موضحة أن "الأخير ما زال حاضراً في مجلس النواب عبر كتلته، كما أنّه لم يقدم أي استقالات"، وأضافت: "ما يتبين للكثيرين أن الحريري لم يكن رجل مواجهة، في حين أن هناك أطرافا أخرى تتمدّد داخل الطائفة السنية لتحقيق الصدام وهذا ما لن ينجر إليه الحزب".
بالنسبة للأطراف المناوئة لـ"حزب الله"، فإنّ الحريري سمح بتساهله المُفرط في دخول عناصر مؤيدة لمحور الممانعة إلى قلب الطائفة السنية، وهو الأمر الذي قد يتم استغلاله في الانتخابات القادمة، أقله لمنع جهات أخرى من تجيير أصوات الطائفة لصالحها. وهنا، فإن هذه الوسائل قد تكون أساسية بيد الحزب لمنع إحداث أي انقضاضٍ عليه من داخل المحور السني أولاً، الأمر الذي يضمنُ أولاً ربط النزاع الذي أسسه الحريري، وثانياً يمهد لمرحلة تمدّد واسعة ستنكشف آثارها بعد الانتخابات المقبلة.