في كانون الأول الماضي، أقرّ مجلس النواب في جلسة تشريعية عُقدت في الأونيسكو مشروع القانون الوارد بالمرسوم رقم ٧٥٤٣ الرامي الى إنشاء "نقابة إلزامية للنفسانيين في لبنان"، لتتوالى بعدها ردود فعل أهل الإختصاص التي تراوحت بين معترض ومؤيد، وإن كان الجميع يُجمع على ضرورة تنظيم مهنة علم النفس غير المنظمة في لبنان، والأهم الحاجة الملحّة لمأسسة هذه المهنة في وطن " نفسية شعبو بالأرض... اذا مش تحت الأرض".
أول حراك ذو بعد نقابي معارض لهذا التوجّه صدر عن "مركز نفسانيون" ومقره بدارو من خلال بيان جاء فيه: "إنه لأمر مُلفت أن تُنشأ نقابة وأن تصدر قوانين تُنْظّم مهنة النفسانيين، في ظل الأزمات المتعاقبة وإنهيار مُختلف المؤسسات والقطاعات في لبنان.
ولعل السبب الرئيس هو قوة القطاع النفسي في لبنان وحجمه، وهي قوّة إكتسبها من وجود أهم الأساتذة الأكاديميين والباحثين والمعالجين والمحللين النفسانيين، بالإضافة إلى المؤسسات والمراكز والجمعيات غير الحكومية العديدة، وما تقدّمه من عمل إحترافي وعلمي في المجال النفسيّ.
وبحسب بيان المركز، هناك سبب آخر لم يكن بعيداً عن موجبات هذه الحاجة النقابيّة، وهو العمل الجبّار والجهد الكبير الذي بذله القطاع النفسي على الصعيد العلمي المنهجيّ الأكاديميّ من أبحاث، مؤتمرات ومنشورات ولم يفُت هذا القطاع أن يكون رائداً على الصعيد الإنساني، ومن رَحمه ينطلق، ففي كل مراحل الأزمات التي مرّ بها لبنان كان الجسم النفساني في الصفوف الأمامية بدءاً من الحرب الأهلية وتبعاتها، مروراً بالحقبات الإقتصادية الصعبة والمتتالية على مر سنين التعافي بعد الحرب، وصولاً الى ثورة ١٧ تشرين وما بعدها، ثم تداعيات جائحة كورونا، ولن تكون النهاية عند كارثة إنفجار مرفأ بيروت في آب ٢٠٢٠، وقد أدّى هذا القطاع في كل ما تقدّم دوراً أساسياً، بحيث قدّم نموذجاً للعمل النفسي الإنساني، عماده الكمّ الهائل من المشاريع والمبادرات، وهو ما شكّل تحوّلاً كبيراً ونهضة في هذا المجال جعلا من لبنان، وعلى الرغم من سوداوية المشهد، مركزاً متقدّماً ومحجةً ومنصةً لأهم علماء النفس والمحللين النفسانيين، سواء أكانوا عرباً أم عالميّين، وبهذا وصل العمل النفسانيّ اللبنانيّ إلى مستوى العالميّة عن جدارة.
أما الجواب عن سؤال "لماذا نبني نقابة في زمن الإنهيارات، فهو أنّ القوة المُتراكمة للقطاع النفسي تحتّم إنشاء مؤسسة نقابية تحمي وتطور ما جرى إكتسابه على مر السنين، وتؤسس لدور وطني ومُجتمعي كبير في شتّى القطاعات والمجالات .
وفي أجواء التحضير والتأسيس لنقابة النفسانيين في لبنان، يبقى التطلع إلى نقابة ذاتَ نَفس جَمْعِيّ لا تقسيمي، تحتكم إلى العلم والقانون وأخلاقيات المهنة، نقابة تحمي جميع النفسانيين وتصون حقوقهم، وتُصحّح الثغرات الموجودة في القوانين، وتُعدّلها على أساس إنصافهم، ولا سيما الزملاء في مسار علم النفس المدرسي وعلم نفس العمل وغيرها من المسارات، نقابة تُمثّل مختلف التيارات والجامعات والمدارس والإتجاهات العلمية والمهنية والمرجعية في علم النفس، ذات مشروع علمي ممنهج بعيداً عن "شخصنة" الأمور وتسيسها، وتدعم تنوّع الإختصاصات النفسية وتعمل على تطويرها.
نقابة تتعاون وتنسّق مع الكفاءات العلمية في المجال النفسي، تحمي علم النفس، وتعصمه عن التدخّلات الهجينة، لا سيّما من غير الإختصاصيين، وتضع حدوداً قانونية لمنتحلي الصفة النفسانيّة من غير العلميين.
نقابة تتفاعل مع مشكلات المجتمع، وتستشرف المستقبل وتشارك في الحلول من خلال المشاريع والأبحاث والدراسات،
وتضع المعايير العلمية لإعداد المعالجين النفسانيين من مختلف الإتجاهات وتأهيلهم بالدعم والتدريب، على أن يكون الإعداد موثوقاً ومتيناً.
تبقى النقطة الأخيرة والأهم في هذا البيان هي إستذكار الكبار في ميدان علم النفس في لبنان الذين رحلوا عنا، أمثال عدنان حب الله ومنير شمعون ونزار الزين وطلال جابر وأنطوان رومانوس، وغيرهم من الأساتذة الكبار، الذين لهم الفضل في بلورة مسار علم النفس ووضعه على سكة العمل النقابي الجامع، والأهمّ دورهم الرائد في تعبيد الطريق نحو إنشاء أول نقابة مهنية رسمية للنفسانيين في العالم العربي، فلهم كل التحية والإمتنان لتحقيق هذا الإنجاز، على ما يختم البيان.