جربوعة، نفيسة، خوشبوش وعطر الليل كما «هبت» و»معليش»أسماء تعود بنا الى زمن العز وتولّد فينا حنيناً الى ميدان كان قلب الوطن الدافئ يجمع بين أفياء صنوبراته الخضراء وحول مضماره الأغبر اللبنانيين بجميع أطيافهم وطوائفهم. ميدان سبق بنشأته دولة لبنان الكبير ورافق صعودها وعثراتها وانكفائها وكان شاهداً على كل ما مرت به من أيام بيض وسود ولا يزال الميدان مفتوحاً للخيل تركض في «فتح النفس» قبل أن تقطع أنفاس المراهنين.
«بيلعب بالسبق» كانت تلك علة ترفض معها الأمهات تزويج بناتهن لمن ابتلي بها، وكان «السبق» لطخة على سجل الكثيرين ووصمة يأبون خلعها فيما مكاتب «البارولي» محميات سبقت زمن الميليشيات ومسلّحيها... اليوم صرنا نحنُّ الى تلك الوصمة التي باتت أقل خطايانا في الوطن الغارق في الخطايا وبتنا نلاحق أخبار «السبق» و»السبقجية»علها تكون صلة الوصل الوحيدة بين لبنان اليوم ولبنان الأمس.
توأم لبنان الكبير
قصة ميدان سباق الخيل في بيروت يرويها بشغف لـ»نداء الوطن» النائب السابق نبيل دو فريج الذي نشأ وكبر في أجوائه وجعل منه قضية يناضل لأجل بقائها. «في العام 1916 أراد والي بيروت حينها عزمي بيك أن ينشئ كازينو وميداناً لسباق الخيل في حرش بيروت بعد أن كان في بير حسن، ولزمت الأعمال على طريقة BOT الى شركة بارك بيروت على أن ينتهي العقد بعد خمسين سنة اي في العام 1966. وكان ألفريد سرسق رئيس الشركة وجد أن الكازينو يدر أموالاً أكثر من السباق فبدأ بناءه أولاً ومعه بنى المدرجات التي استخدم فيها الحجر ذاته المستخدم في بناء الكازينو أو قصر الصنوبر وكانت تحفة هندسية محفورة باليد وقد دوّن فوق قناطرها عبارة «الخيل معقود في نواصيها الخير» وكان المضمار يلتف حول الكازينو ليشكل حلقة بيضاوية مثالية المقاييس.
مع سقوط الأمبراطورية العثمانية ووصول الحلفاء الى بيروت تم إعلان دولة لبنان الكبير من على درج قصر الصنوبر واتخذه غورو مقراً للمفوض السامي كما اتخذ قراراً بتقصير مسلك السباق وجعله يمر من أمام الكازينو فاصلاً بذلك قصر الصنوبر عن ميدان سباق الخيل. و أكمل سرسق بناء المدرجات وانطلق العمل في الميدان رسمياً حوالى العام 1922 وكانت تلك بداية لمرحلة ذهبية كان الميدان يستقبل فيها كبار الشخصيات من لبنان والعالم وتجرى فيه السباقات يومي السبت والأحد بمعدل ثمانية في كل مرة. ومن كبار زواره شارل ديغول، بول دو غريس ملك اليونان وشاه إيران وكانت العادة أن يزور رئيس الجمهورية اللبنانية ميدان السباق مرة في السنة أو أكثر ويجلس في اللوج الرئاسي المخصص لكبار الشخصيات. وكان ميدان السباق يدخل في برامج الجولات السياحية للسياح الذين يقصدون لبنان وكانت المدرجات بهندستها المميزة كما الخيول العربية متعة لهؤلاء». حينها كان السبق ملتقى اللبنانيين بكل طوائفهم وانتماءاتهم وحتى مداخيلهم، والرواد ينقسمون الى درجات ثلاث حسب سعر تذكرة الدخول وأماكن الجلوس، وكان يشغّل عجلة اقتصادية كثيرة الحلقات تبدأ عند مربي الخيول وتمر بمالكيها والمزارعين ومن ثم الساسة والمدربين و»الجوكييه» وصولاً الى المهتمين بنشر أخبار السباق ومكاتب المراهنة الشرعية وغير الشرعية.
في العام 1966 انتهى عقد السنوات الخمسين وأرادت بلدية بيروت إدارة ميدان السباق فكانت تجربة غير ناجحة ما حدا بالبلدية للاتصال بمربي الخيول المعروفين مثل هنري فرعون وموسى دو فريج وفوزي غندور وسواهم لطلب المساعدة فتم إنشاء جمعية ذات منفعة عامة لا تتوخى الربح لإدارة المؤسسة وولدت SPARCA وهي جمعية حماية وتحسين نسل الجواد العربي في لبنان ولا تزال مستمرة حتى اليوم في الإدارة بحكم التمديد ويتولى رئاستها نبيل دو فريج فيما يتولى المهندس نبيل نصرالله إدارة ميدان سباق الخيل.
ميدان انهكته الحرب
الحرب الأهلية ألقت بتبعاتها الثقيلة على ميدان سباق الخيل. ويوم انطلقت شرارتها في 13 نيسان 1975 في عين الرمانة كانت السباقات قائمة في الميدان القريب من مكان الحادثة وبدأت تسمع أصوات الرصاص حينها وشكلت إعلاناً بتوقف عمل «السبق» الذي استمر يقتنص فترات الهدوء ليعيد فتح ابوابه من جديد بشكل متقطع. في العام 1976 ومع مجيء الرئيس سركيس كان طلبه الأول إعادة فتح ميدان سبق الخيل الذي بات المكان الوحيد لالتقاء أبناء بيروت بعد أن هدمت الحرب أسواقها. ولم يكن هذا الطلب مستغرباً فقد سبقه طلب مماثل أبان الثورة الأهلية عام 1958 حيث طلب السياسيون إعادة فتح «السبق» لإعادة لم شمل اللبنانيين المتخاصمين.
أحداث كثيرة يرويها نبيل دو فريج عن تلك المرحلة الصعبة، فخلال قصف الأشرفية في العام 1978 كان السباق دائراً وكانت قذائف الـ «آر بي جي» تعبر فوق رؤوس الحاضرين ما اضطرهم للاقفال والعودة من جديد العام 1981. ومع تفاقم جولات القتال بين الفرقاء المتواجهين كان الجامع الوحيد بينهم هو السبق حيث كانوا يتبادلون القصف أيام الأسبوع ويلتقون يوم الأحد في السبق وكانت « الكومبينات» تتم من الميلشيات المسيطرة هنا وهناك للغم النتائج وتهديد الجوكييه من قبل «سبقجية الحرب».
مع الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 حلت الكارثة الكبرى التي غيرت وجه ميدان سباق الخيل الى الأبد. مع إحكام الجيش الإسرائيلي حصاره على بيروت الغربية منع أياً كان من دخول ميدان سباق الخيل في حين كان 350 جواداً من الخيول المتواجدة في الحظائر معرضة للموت جوعاً وعطشاً في عز حرّ حزيران. حينها طلب نبيل دو فريج مقابلة الرئيس سركيس وأخبره بالكارثة الوشيكة فاستدعى الرئيس الوسيط الأميركي فيليب حبيب وطلب منه التفاوض مع الإسرائيليين للسماح بإخراج الخيول لا سيما بعد ان مات منها 11جواداً نتيجة القصف في حظيرة هنري فرعون. فوجئ حبيب بالطلب الغريب في حين ان وضع الناس والبلد كان في قمة التأزم لكن الرئيس أصرّ وسمح لدو فريج بإخراج 350 جواداً وإنقاذ حياتها. لكن الإسرائيليين الذين أرادوا خدمة بالمقابل لم يحظوا بها عمدوا عن قصد الى تدمير مدرجات سباق الخيل الشهيرة ودكوا أعمدتها كما مباني الإدارة وسووها بالأرض منهين بذلك الحقبة الذهبية من تاريخ ميدان سباق الخيل الذي دخل بعدها في مرحلة جديدة.
الاثنين قصف والأحد سبق
بعد الحرب تغير وجه «السبق» وجمهوره فمن كانوا سابقاً بالدرجة الثانية والثالثة باتوا هم جمهور السبق اما المالكون والمربون فهجروا بيروت وباعوا حظائرهم. وهنا يروي دو فريج رواية تتأرجح بين المضحك والمبكي حيث عرض أحد مربي الخيول وكان قادماً من الولايات المتحدة إشراك عدد كبير من خيوله في السباق والدفع بعجلة المكان الى الأمام لكنه اشترط كونه فلسطينياً أن يتم إلباس «الجوكييه» ألوان العلم الفلسطيني ما كاد يتسبب بأزمة حينها مع الشارع المسيحي ومشاعر العداء التي كان يكنها للفلسطينيين فتم الطلب مرة جديدة الى الرئيس سركيس بالتدخل لإقناع الشيخ بشير بالأمر ولجم محاربيه عن الاتيان بأي عمل عدائي حفاظاً على المستثمر الجديد وهذا ما حصل بالفعل الى أن تم تغيير ألوان اللباس بعد فترة. بعد تدميرها أعيد بناء جزء صغير من مدرجات سباق الخيل بما تيسر وعاد إجراء السباقات لمجرد إبقاء الخيول نشطة وكانت مكاتب الإدارة في مستوعبات حديدية. تغيّر وجه السبق وصار رواده من المراهنين فقط. لكن ذلك لم يوقف إدارته عن العمل بجهد لمكننة المراهنات وإعداد نظام متطور لها لاحتساب الأرباح والضرائب كما لم يقف عائقاً أمام جمعية SPARCA لإجراء مسح لكل خيول لبنان وتزويدها برقّاقة إلكترونية مع تحديد فئة دمها وخصل من شعرها لتأكيد حمضها النووي والتأكد من أصالة نسلها وهوية والديها وذلك لتحسين نسل الخيول وضمان اصالة كل جواد يشارك في السباقات.
سبقجية اليوم
بسياراتهم العتيقة ونمرها الحمراء وسجائر السيدرز والعمر المنهك لا يزال السبقجية المخضرمون يقصدون ميدان سباق الخيل ثلاث مرات في الشهر بعد ان صارت السباقات الخمسة مقتصرة على يوم واحد فيراهنون على الـ GANANT او الـ TWINS او على الفوركاست او البلاسيه وربما على التريو او الدوبليه ومعهم الأمل بفوز يدغدغ أحلامهم منذ عقود. جرائد السبق اختفت ولم يبق منها إلا واحدة ربما تعلن نتائج الأحد الماضي وبرنامج السباق المقبل وتعطي بعض الترجيحات، لم تعد رفيقة السبقجية يخبئونها داخل ستراتهم، فالأيام تغيرت ومعها تقاليد السبق ومراهنيه.