باتت الانتخابات النيابية بحكم الحاصلة بعد فترة طويلة من الأخذ والرد في الاعلام والأروقة السياسية التي شكّك بعضها بإتمام هذا الاستحقاق في موعده وذهب بعيدا الى حدّ اشاعة الحديث عن تطييره بشكل نهائي لأسباب تقنية او سياسية وحتى أمنية.
ولكن بعد أن خرجت فكرة "اللحظة الاخيرة" من دائرة الاحتمالات وسلكت الانتخابات النيابية، رغم كل التحديات، مسارها الطبيعي نحو موعدها المقرّر في الخامس عشر من شهر أيار الجاري وباتت أمراً واقعاً لا مخرج منه، ولو بمعوقات مُفتعلة، فإن السؤال أصبح اليوم عن أهمية هذا الاستحقاق الذي يأتي في ظلّ انهيار الدولة ومؤسساتها وعن ما سينتج عنه من تبعات سياسية بعد اعلان نتائجه.
لعلّ الاستحقاق الدستوري المُرتقب هو واحد من أهم الاحداث السياسية المصيرية في تاريخ لبنان، لأنه سيمهّد لمرحلة مختلفة على المستوى السياسي وسيكون حجر الأساس في بناء ما يمكن وصفه بالنظام السياسي الجديد أو ربما تعديل في النظام السياسي الحالي. وبشتى الاحوال فإن لبنان الذي سيخوض أشرس المعارك الانتخابية والمفصلية على الإطلاق سيحسم عبر نتائجها "الربّان" الذي سيتولى الابحار بالواقع اللبناني في المرحلة المقبلة.
فأي لبنان سيكون بعد الانتخابات؟
كلمة السرّ هي "الاكثرية النيابية"، إذ أياً كان الفريق الذي سيفوز بها سيكون قائد الحكم وسيرسم خارطة التحوّلات ما بعد الانتخابات المقبلة لا سيما على المستوى الاقتصادي والمالي للبنان، وسيحدّد ما إذا كان الخيار سيميل لاستمرار التفاوض مع صندوق النقد الدولي أو يميل لتغييرات جذرية تطرحها هذه الاكثرية فيما بعد.
كل التطورات السياسية الحاصلة تؤشر الى أن "حزب الله" ليس في وارد قلب الطاولة بعد انتهاء المعركة النيابية، وإن كان سيكون أكثر اندماجاً في الواقع السياسي واكثر حضوراً داخل المؤسسات لجهة الفعالية السياسية، الا انه لا ينوي تطيير المسارات الايجابية التي انطلقت من بوابة رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، بل سيكتفي، بحسب مصادر متابعة، بإبداء الرأي ويلتزم في الوقت نفسه عملية التفاوض مع صندوق النقد الدولي.
على الأغلب، فإن الأشهر التي ستلي الانتخابات النيابية وبعد تشكيل مجلس نيابي جديد، ستفرض على لبنان حكومة مشابهة او شبه مطابقة للحكومة الحالية، اي حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، الا في حال قررت بعض القوى السياسية استبدال "تكنوقراطييها" بوجوه سياسية، وعليه فإن عجلة المفاوضات مع صندوق النقد ستستمر في دورانها والسلطة الحالية التي تتسلم دفة المفاوضات في ملفّ الحدود البحرية ستستكمل مهامها بمعزل عن احتمال الوصول الى نتيجة من عدمه.
يبدو أن رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي الذي يحظى بدعم عربي وغربي ومحلّي بات، وفق مصادر رفيعة المستوى، من أبرز المرشحين لترؤس الحكومة، بل مرشحاً طبيعيا لها، لكن من الواضح أن الرجل الذي يتصدّر واجهة الرئاسة لم يحسُم حتى هذه اللحظة رغبته في الحفاظ على موقعه رغم نجاحه في مواجهة عاصفة الانهيار، بالحد الادنى، وتذليل كل العقبات لإجراء الانتخابات النيابية. غير أنّ كل الأجواء الداخلية والخارجية توحي بأن التمسّك بميقاتي ضرورة لا غنى عنها لضمان الاستقرار والإمساك بزمام المرحلة المقبلة أقلّه حتى موعد الانتخابات الرئاسية في تشرين الاول المقبل، لكن البعض يذهب الى أبعد من ذلك متوقّعاً أن يعاد تكليف ميقاتي لتأليف حكومة "عهد جديد" أي ما بعد انتخاب خلفٍ لرئيس الجمهورية ميشال عون.
من جهة اخرى، فإن المرحلة المقبلة قد تشهد بداية نقاش حول تعديل نظام "الطائف" او استبداله أو تطبيقه، ومن المعلوم أن رئيس الحكومة سيكون من أبرز الوجوه الحاضرة والمشاركة في المفاوضات التي ستتمثل فيها جميع القوى السياسية بما فيها "تيار المستقبل" الذي، رغم عزوف رئيسه سعد الحريري عن المشاركة في الانتخابات النيابية، فقد يتمكّن من إثبات حضوره من خلال نسبة المقاطعة السنية المرتفعة، الامر الذي من شأنه أن يضع لبنان أمام مخاض سياسي كبير والذي لا يمكن أن يستقرّ الا في ظلّ حكومة متّفق عليها من كل الاطراف المعنية لتستمرّ في مسار الإنقاذ من دون أن تتأثر بالخضّات السياسية، لذلك فإن مواصفات الحكومة المقبلة قد تستدعي جدياً استنساخ تجربة الحكومة الحالية المتوافق عليها على المستوى السياسي.