في لغة الطب وعلم النفس العلاجي، غالباً ما يؤدي التشخيص الخاطئ الى اضطرابات ذات ارتدادات تفوق بسلبيتها خطورة الحالة قيد المعالجة، فما تزيد المريض الا ألما.. وكذلك ينطبق هذا المثال على تكتيك علاجي بتشخيص غير سليم لمنطقة بعلبك الهرمل، لعائلات تئن بوجع سنوات من الحرمان واللامسوؤلية ولغة التنميط والفقر، والاستهتار بشريحة كبيرة وُعدت بالانماء ولم تحصد غير المزيد من التسويف والمماطلة، وحُرمت من القصاص العادل فسطرت بحقها قرارات الإعدام.. ولسان حال أهل البقاع: "إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
على "هدنة" مخفية أُقفلت هذه المرة جولة المداهمات الأمنية في البقاع بحثاُ عن المطلوب علي منذر زعيتر الملقب بـ"أبو سلة"، على وقع ما يشبه، انفجار أمني وقع على رؤوس أبناء هذه المنطقة. انفجار من المفترض أن يضع الجميع اليوم، أمام إعادة تقييم للواقع الأمني والسياسي والاجتماعي والثقافي لهذه المنطقة، بشكل يُحمل فيه الكل المسؤولية دون استثناء، لما آلت اليه أحوال هذه المنطقة المنسية الاّ من ثقافة التعميم "العفنة"، التي تسيطر على عقول كثيرين، حتى باتت "شيطنة" المنطقة بعبارات "الزعران والتجار والطفار"على كل لسان. باختصار فلنضع قليلاً ما لهذه المنطقة من حسابات وما عليها.
نعم، هناك "طفار"، سارقون، تفلت أمني، سلاح عشوائي.. حتما هناك تجارة نشطة للمخدرات، سهول حشيشة على مساحات جغرافية واسعة، عصابات لسرقة السيارات، خطف مقابل فدية، ثارات وتجاوزت أمنية.. ولكم أن تضيفوا ما شئتم على اللائحة. وحقيقة أنّ هذه التجاوزات قد تجدها في غير مناطق، ولكن بعلبك "المغنطيس" الأقرب الى جذب ذلك النوع من الممارسات غير القانونية، بطبيعة العلاقة السلبية التي طبعت لسنوات مفهوم الدولة والعشيرة، فتلطى بعض من المتفلتين وراء شماعة العشيرة والتمرد على تلك "الدولة" التي استغنت عنهم كما يعتبرون وتركتهم اسرى لوضع اقتصادي اقرب الى تجاوز خط الفقر المدقع بأشواط، وهو ما دفعهم أكثر الى التجارات غير المشروعة لايجاد متنفس اقتصادي.
قرار بالحسم
حتماً، لا مبرر للخطأ.. هذه القاعدة، ولكن في البقاع هناك الاستثناء. لنسلم جدلاً بالواقع المأساوي، ولتكن دعوة من كل أبناء البقاع المتضررين اولاً واخيراً من كل التجاوزات، لكل المعنيين ان يلتفتوا الى وضع المنطقة. تكاد هذه الصورة تلخص حال أبناء البقاع بعد جولة المداهمات التي حصلت مؤخراً في الشراونة والدار الواسعة والكيال وجبعا، هؤلاء يريدون الخلاص اولاً من هذه التفلت الأمني، هم اول المتضررين، ولكنهم يكادوا يجمعون على أنّ أسلوب المعالجة خاطئ، ولكن ما حدث كان مخططا له، حسبما يؤكد مصدر أمني مطلع، وخصوصاً بعد حالات الخطف الأخيرة التي انتشرت بشكل مخيف في المنطقة، حينها اتخذت المؤسسة العسكرية قرارها بـ"الحسم". وبحسب المصدر الأمني فإنّ العمليات ستستمر بحثاً عن المطلوبين مع التأكيد على أنّ الجيش لم ولن يكن ابداً في موقع "عداوة" مع اهل المنطقة، كما حاول كثيرون الاصطياد بالماء العكر، مع الاعتراف غير المباشر من قبل المعنيين الأمنيين بأنّ "طريقة" القبض على "أبو سلة" كانت ستؤدي "لا قدر الله" الى إراقة مزيد من الدماء، ولكن ذلك لا يعني انّ العملية ستتوقف، بل انّ القوى الأمنية ستستمر في "تنظيف" المناطق من بؤر المخدرات وكل ما ينتج عنها من تفلت امني.
أمّا على الأرض، فالتعمق في أسلوب حياة اهل بعلبك الهرمل تحديداً، مغاير لما تنقله الوسائل الإعلامية ومواقع التواصل، من تنميط وتعميم. وتكر السبحة، فمن حالة "الترويع" التي عاشها البقاعيون في الأسبوع الأخير "غير المقبولة"، الى غياب الحق والعدالة في العيش الكريم. فمن يضمن لهؤلاء أمنهم وسلامهم، من رصاص طائش متبادل وقذائف. من يضمن للشباب "المطلوبين" أنّ تتم محاكمتهم بأسلوب عادل، لا أنّ تُسطر بهم احكام الإعدام رمياً بالرصاص، من يضمن لشباب متعلم مثقف أن لا "يتبهدل" على الحاجز فقط لانّه من عائلة (زعيتر، حمية، جعفر...). من يضمن لهم الحصول على فرص عمل في غياب الانماء والاستراتيجيات الاقتصادية، من سيؤمن لهم الزراعات البديلة، من سيمضي على قرار نهائي بتشريع محاصيلهم من الحشيشة، من سيضمن لهم وقف الأكاذيب التي يستخدمها سياسيو المنطقة لإقناعهم بأنّهم "سيحصلون" لهم العفو العام.
دراما البقاع
هي بعلبك اذاً التي تئن تحت وطأة الوجع، هي ليست مشهدا سينمائيا وليست القلعة، ولا المهرجان، هي منطقة يُحرض فيها على القصاص من الجميع أبرياء ومذنبين. هي حتماً الدراما التي يعيشها أبناؤها في بلد الانماء المحروم. ولكي تتعافى المنطقة من آلامها فحتماً البداية اصلاح ما في ذات أبنائها، لمنع أي فرصة على المزايدين بخروج المنطقة عن القانون، وبعدها فليكن العلاج انمائياً على مستوى استراتيجيات اقتصادية تضمن التعافي.. وغير ذلك كلام في الغبار.