لم تكن اللقاءات التي عقدها السفير السعودي في لبنان وليد البخاري خارجة عن سياق النشاط الذي بدأه قبل اسابيع قليلة من الانتخابات النيابية، لا بل ان الحراك الحالي يعد مكملا لاعادة التموضع التي تقوم بها الرياض على الساحة اللبنانية بعد انكفاء شبه كامل استمر لسنوات. بعكس المتداول في الحيز السياسي، لم يكن تدخل البخاري في الانتخابات الا تدخلا موضعيا حاول من خلاله منع حصول خسارة دراماتيكية لحلفائه الاساسيين، لكنه لم يخض في الواقع معركة كسر عضم شاملة لدعمهم وتوحيدهم على الاراضي اللبنانية كافة .
قبل اشهر قليلة من الانتخابات، اجمع عدد من العارفين بالسلوك السعودي في لبنان، ان الرياض ستتعامل مع ما تفرزه المعركة الانتخابية، وستحدد خياراتها على الساحة السنية وفق التوازنات الجديدة. دُفعت الرياض الى الانخراط في الانتخابات بقدر لم تكن تريده منعا لتقديم فوز كاسح لحزب الله وقد نجحت جزئيا بذلك، وساعدها التقدم غير المتوقع للمجتمع المدني في اكثر من دائرة انتخابية.
اليوم تستكمل الرياض ما بدأته، اذ ينقل عدد ممن التقاهم السفير السعودي خلال الايام الماضية ان المملكة تعيد التعرف على الساحة اللبنانية في تمهيد واضح لاستعادة الدور التقليدي فيها، لكن هذه العودة السعودية لن تكون مشابهة للأداء السياسي القديم الذي اعتاده اللبنانيون.
قواعد عدة ستحكم الحراك السعودي في لبنان في المرحلة المقبلة بعد التعرف عن كثب على التبدلات الشعبية والسياسية التي طالت الساحة السنّية، خصوصا ان الرياض تدرك واقع الخصوصية اللبنانية التي تحكم ان يكون النفوذ السعودي الاساسي في البيئة السنيّة قبل اي بيئة اخرى.
القاعدة الاولى هي انعدام الحصرية، اذ ان دعم الرياض لشخصية سياسية واحدة لتكون الممثل السياسي الاساسي والحصري لها في لبنان انتهى الى غير رجعة، والاكيد ان المملكة تريد ان تكون الراعي السياسي والمرجع الاقليمي لجميع القيادات والنواب والشخصيات السياسية والمناطقية في الطائفة السنيّة ولن تلزم نفسها بدعم شخصيات يتطابقون معها سياسيا او يميلون بشكل سياسي كامل اليها. فكما ستتواصل السعودية مع شخصية حادة مثل النائب اشرف ريفي، ستتواصل وتفتح ابواب التعاون مع شخصية معتدلة هادئة مثل النائب عبد الرحمن البزري، ومن الواضح ان الرياض باتت اليوم أكثر قدرة على احتواء التبدلات في الشارع السني.
القاعدة الثانية هي ان السعودية لن تخطو خطوات سياسية مباشرة، اقله في المرحلة الحالية ، بمعنى انها لن تدعم شخصية دون غيرها لرئاسة الحكومة ولن يكون لديها مرشح علني لرئاسة الجمهورية ، وهذا كان واضحا من خلال لقاءات البخاري مع النواب السنّة الذين لم يسمعوا منه كلمة عن الاستشارات النيابية الملزمة او اي ايحاء يدعم شخص دون غيره.
القاعدة الثالثة هي ان انخراط الرياض في دعم لبنان يحتاج بشكل جدي الى اصلاحات تنهي التحلل الذي اصاب بنية المؤسسات، ما ينفي فكرة الانكفاء التام للرياض عن دعم لبنان، لكنها ستكتفي في المرحلة الحالية بالصندوق المشترك ليتم الانتقال الى دعم المؤسسات الرسمية بشكل مباشر بعد التطورات الإصلاحية.
تلعب التطورات الاقليمية والدولية دورا جديا في تبديل الرياض لموقفها من لبنان، ولعل التقارب المتوقع دائما مع دمشق هو الدافع الاساسي لاستعادة البنية السياسية للحضور السعودي في بيروت وهذا ما قد يتطور بطريقة متسارعة في الاشهر المقبلة..