نوبة تضخميّة أصابت دول العالم، وإن بنسبٍ متفاوتة، تُنذر بأزمة اقتصاديّة عالميّة كبيرة، وصّفها بنك إنجلترا في تقريره حول الاستقرار المالي بـ "العاصفة الإقتصادية ". البنك الدولي أشار إلى تفاقم التباطؤ في وتيرة الإقتصاد العالمي، الذي بدأ يدخل مرحلة "من النمو الضعيف والتضخّم المرتفع" وذلك في تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية الأخير الصادر عنه. خلف التضخّم، تتواطأ جملةُ عوامل، في مقدّمها الحربُ في أوكرانيا، فوضى سلسلة التوريد، والأضرار الناجمة عن كورونا. الإحتياطي الفيدرالي الأميركي يجابه التضخّم برفع الفائدة، البنوك المركزية الأوروبية تعجز عن مجاراته، فتهرب الرساميل ويهبط اليورو، إلّا أنّ التأثير الأكبر سيطال الدول المنخفضة الدخل واقتصادات الأسواق الصاعدة، حيث تمثّل الأغذية والطاقة النسبة الأكبر من الاستهلاك، وحيث حجم المديونية آخذ في التصاعد.
حيال هذا الواقع العالمي، ترتفع التحذيرات من النصف الثاني من العام الحالي 2022، بفعل حاجة الدول إلى الغاز خلال فصل الشتاء. ماذا عن لبنان الذي يعاني من انهيار مالي غير مسبوق، كيف سيتأثر بالأزمة العالمية؟ وماذا عن المغتربين هل سيتمكّنون من إرسال الأموال إلى ذويهم؟
الأزمة تعود إلى ما قبل كورونا
"مؤشرات الأزمة الإقتصادية العالمية ليست مفاجئة، بل كانت على جدول الأعمال منذ ما قبل كورونا، وأتت الجائحة لتؤخّر ظهورها، خلافًا لما يعتقد البعض، هذا ما تُثبته مراكز البحث في العالم" يقول الخبير الإقتصادي البروفسور بيار الخوري في حديث لـ "لبنان 24"، لافتًا إلى أنّ التبعات ستظهر بشكل أوضح بعد ثلاثة أشهر، بحيث تواجه أوروبا شتاءً صعبًا بسبب أزمة الطاقة العالميّة، بفعل الحرب في أوكرانيا وخفض إمدادات الغاز الروسي.
أوروبا مركز الأزمة
مسار التضخّم آخذ في الإرتفاع، في الغرب ووصل إلى 4.5% أواخر العام الماضي وقبل الحرب في أوكرانيا، ثم أتت أزمة أوكرانيا لتزيد من حّدته، وقد سجّل في الولايات المتحدة 9% وفي أوروبا 8%، وهي أرقام هائلة غير مسبوقة، وفق الخوري "في حال استمرت حرب أوكرانيا والصراع على الموارد الطاقوية، ستتضاعف الأسعار، لذلك سيكمل الفيدرالي الأميركي المسار الذي بدأه برفع الفائدة حتّى نهاية العام، حيث أنّ قوّة اندفاعة التضخم لا زالت أكبر من قدرة ارتفاع سعر الفائدة على لجمه. وفي حال استفحل التضخم، لا يعود رفع سعر الفائدة قادرا على ضبطه، لأنّ ذلك سيضرب الثقة في النظام، ويأتي بنتائج عكسيّة".
البنوك المركزية الأوروبية لن تكون قادرة على اللحاق بالمركزي الأميركي في رفع الفائدة، وما ينتج عن ذلك من رفع كلفة الإقراض، وذلك لعدّة أسباب يوضح الخوري، أبرزها النمو الضعيف في بلدانها، المخاطر الجيو سياسية وانعدام اليقين حيال المستقبل، وما يتسبّب به من هجرة للرساميل، والديون السيادية في منطقة اليورو "فالدول الغنية أقرضت الدول الضعيفة خاصة في كلّ من أوروبا الشرقية والجنوبية، كأسبانيا وإيطاليا واليونان، وفي حال عجزت أيّ دولة عن سداد ديونها بسبب كلفة الإقراض العالية، ستُوقع معها الإتحادَ الأوروبي كلّه. فضلًا عن أسباب تتعلق بالنفوذ الأوروبي على خارطة العالم، حيث أنّ سياسة الإقراض التي تتبعها الدول الأوروبية المقتدرة تُكسبها حلفاء في أفريقيا وأوروبا الشرقية ودول الإتحاد السوفياتي السابق، وفي حال رفع الفائدة وعجز هذه الدول عن الدفع، ستكون الفرصة ملائمة لكلّ من الصين والولايات المتحدة لاستمالة هذه الدول".
نجاة العالم بالتخلي عن كسر الروس في أوكرانيا
الحرب الدائرة في أوكرانيا فرضت مسارات دوليّة مغايرة في رزنامة الحكومات، وأعادت ترتيب الأولويات. كلّ ما يحصل في محيطنا، بما فيها زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمنطقة، يصبّ في محاولة لإيجاد بدائل عن الغاز الروسي بنظر الخوري "لكن ذلك ليس سهلًا، بسبب ارتفاع الكلفة، خصوصًا بالنسبة لاقتصادات تعاني من التضخم. من هنا نجاة العالم من أزمة اقتصادية محتومة بات شديد الإرتباط بإنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا، ولكن تسوية ترضي روسيا، التي تملك سلاحًا يؤثر على كلّ العالم، خصوصًا بعدما ثَبُت أنّ تأثير انعكاسات الحرب كان كبيرًا على الإقتصاد العالمي، بما يتجاوز بكثير الإنعكاسات على روسيا نفسها، التي تبدو مرتاحة لما هو أبعد من سير المعارك العسكرية، للمسار الإقتصادي المتمثّل بالتدفقات النقدية الدولية، ورفع الحظر شيئًا فشيئًا".
تحويلات المغتربين اللبنانيين تتناقص شتاءً مع اشتداد الأزمة العالميّة
لبنان البلد الذي يعاني أزمة مالية غير مسبوقة، يعتمد اقتصاده ومواطنوه بشكل كبير على تحويلات المغتربين في مختلف دول العالم، كونها تغذّي البلاد بالعملة الصعبة، خصوصا بعد انهيار الليرة. وقد تصدّر بلد الـ 10452 كم2 قائمة دول المنطقة في احتساب نسبة التحويلات إلى الناتج المحلي بنسبة 12.7 في المئة، بحسب البنك الدولي، بحيث بلغت قيمة تحويلات المغتربين 6.6 مليار دولار عام 2021، من دون احتساب الأموال التي تأتي نقداً عبر المسافرين. ولطالما شكّلت هذه التحويلات اقتصادًا رديفًا في البلد، ودعمت صمود المقيمين في الأزمات والحروب.
حجم هذه التحويلات سيتناقص بطبيعة الحال بفعل الضغوط الاقتصاديّة التي تمر بها بلدان الاغتراب، لأن المغترب سيعاني من تبعات التضخم، شأنه شأن مواطني البلد حيث يعيش، وسترتفع فاتورة نفقاته، من هنا يرى الخوري أنّ المغترب سيجد نفسه ملزمًا بإعادة دراسة ميزانيته بما يتناسب مع الوضع الجديد، وسيقلّص من قيمة المبالغ التي يحوّلها إلى أهله، خصوصًا أنّه ومنذ اندلاع الأزمة في تشرين 2019 لم يعد يحوّل أمواله للإدخار، والفئات الشابة التي سافرت في السنوات العشرة الأخيرة الأكثر تأثرًا بالأزمة.
الأزمة تضرب الدول الضعيفة
الدول النامية لا سيّما في الشرق الأوسط وأفريقيا، ستعاني تبعات التضخم، خصوصًا أنّها فاقدة للمناعة الإقتصادية ومكبّلة بديون سيادية كبيرة، والإرتدادات لن تقتصر على النواحي المالية والإجتماعية والإقتصادية، بل ستصل الى أنظمة هذه الدول، وما حصل في سيريلانكا أبرز مؤشر، والخوف وفق الخوري أن يمتد إلى دول كبرى في المنطقة كمصر وتركيا، حاجاتها الغذائية والطاقوية كبيرة، وكذلك كلفة خدمة ديونها الخارجية "ففي حال حلّت الفوضى في مصر بسبب غلاء الغذاء وارتفاع أسعار الفوائد العالمية، لا يمكن ضبطها، وقد تؤدي إلى خراب في الشرق الأوسط برمّته. بأي حال ما يحصل في بلدان العالم يثبت أنّ الأمن الغذائي العالمي أعاد ترتيب قائمة الأولويات لدى الدول، متفوقًا على مقاربات، اعتقدنا في مراحل ليست ببعيدة أنّها تتصدر الإهتمامات، كالإقتصاد الرقمي الذي ظهر في زمن كورونا".
ما يحصل في العالم شبيه بما حدث في لبنان "لكن بطبيعة الحال لن يكون السيناريو دراماتيكي كما هو الحال هنا، إذ أنّنا نتحدث عن دول تخطط وتجابه وتبني سياسات استجابة للأزمة". ولعلّ الدرس الأبلغ الذي على اللبنانيين تعلّمه من الأزمة العالمية التي بدأت تطل برأسها، الإعتماد على الذات، والقيام بالإصلاحات بإرادة ذاتية، لأنّ الحصول على دعم دولي سيكون صعبًا بظل الضغوط على السيولة في الأسواق الدوليّة.