بعد الانتخابات النيابيّة الأخيرة في أيّار الماضي، اعتقدت أطراف سياسيّة عديدة أنها تمكنت من إسقاط ممثلي النظام السوري في لبنان، وذلك عبر إقصائهم "انتخابياً" من المشهد السياسيّ. حينها، ظنّ البعضُ أن لهذا السقوطِ الإنتخابي أبعاداً استراتيجيّة تؤثر على وجودِ "حزب الله" في مجلس النواب، باعتبار أن الصقور غابوا تماماً. حتماً، الأمرُ هذا لم يُطبّق، فالحزبُ استطاع مع حلفاء آخرين التحكّم بأكثريةٍ داخل المجلس، فارضاً نفسه كـ"لاعبٍ قويّ" يمكنه إحداثَ خضّات نيابية خلال أي استحقاق.
بشكل أو بآخر، باتَ تحرّك "حزب الله" اليوم أكثر سهولة من الماضي، في حين أنّ الخناق عليهِ في موضوع سلاحه بات متراجعاً أقله خلال المرحلة الحاليّة. كلّ ذلك فرضه ملف ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان والعدو الإسرائيلي، والدلالة على ذلك هو "الانعطافة " الكُبرى لرئيس الحزب "التقدمي الإشتراكي" وليد جنبلاط باتجاه الحزب، إذ بات الاحتضانُ للأخير كبيراً والرغبة في الحوار والتعاون معه أعمق وأشمل.
أين سوريا من كل ذلك؟
ما يبدو واضحاً هو أن جنبلاط لا يُنكر أهمية وجود سلاح "حزب الله" في المعركة القائمة على ترسيم الحدود، فـ"زعيم المختارة" بات أقرب لرسم خطوط حمراء حول ذاك السّلاح بهدف تحصينِه في ظلّ الهجمة الإسرائيلية على الحقوق والثروات النفطية والغازيّة. وضمنياً، فإن التأهّب الذي أعلن عنه الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله، الثلاثاء الماضي خلال المسيرة العاشورائيّة المركزية في الضاحية الجنوبية، كان كافياً لاستنهاضِ كلّ الحلفاءِ داخل لبنان وخارجه وتحديداً سوريا، وهنا الحلقة الأقوى والأساسيّة. حقاً، دعا نصرالله للاستعداد لكافة الاحتمالات، ما يعني أنّ هناك توجهاً لمعركة ستنخرطُ فيها سوريا بدرجةٍ كبيرة، وستكون موجودة بقوّة خلالها على الساحة العسكريّة إلى جانب "حزب الله".
فعلياً، فإن هذا الأمرَ مفروغٌ منهُ تماماً، فالحدودُ اللبنانية مع سوريا من ناحية البقاع باتت مُؤمّنة بالكامل، ما يعني أن قدرة تحرّك "حزب الله" هناك لإدخال السلاح والعتاد العسكري والصواريخ من سوريا خلال أي مواجهة مع إسرائيل ، ستكون متوفرة بدرجة كبيرة. إضافة إلى ذلك، فإنّ المسار الذي سيحكم أي معركة سيفرض تعاوناً بين الحزب ودمشق على أساس تنسيقٍ بين كافة أطراف "محور الممانعة"، وما التّهديد الذي أطلقه الحرس الثوري الإيراني مؤخراً بشأن استهداف اسرائيل إلا بمثابة تأكيدٍ على استنفارٍ يحصلُ في مكانٍ ما.
خلال الفترة الماضية، دأبت إسرائيل على استهدافِ خطوط عسكريّة مرتبطة بالجيش السوري والإيرانيين و"حزب الله" في سوريا، وقد ظنّت تل أبيب أن تلك الخطوات بإمكانها أن تكسرَ من خطوط إمداد السلاح باتجاه لبنان. هنا، ما يظهر هو أن بنك الأهداف الإسرائيلي مُشتّت وضائع، كما أن تل أبيب باتت تتجنّب التمادي أكثر مع القوى الأساسية في المنطقة، ولهذا اختارت التراجع شيئاً فشيئاً عن شنّ حربٍ مباشرة عند الحدود الشمالية مع لبنان والاتجاهِ نحو معركة داخلية في فلسطين المحتلة وتحديداً مع الأطراف الفلسطينية التي تحظى بدعمٍ إيراني محدود غير مفتوح. كذلك، فإن إسرائيل قد تسعى أيضاً لتجديد استهداف سوريا مثل المرات الماضية، لكن ذلك لا يعني انتكاسة على خطوط الإمداد العسكري، وهنا يكمن الدور السوري الكبير في تحييد تلك الخطوط الأساسية بالتعاون مع "حزب الله" والإيرانيين.
وعملياً، إن حصل أي اعتداء ضدّ سوريا قريباً، فإن إسرائيل ستكون قد نفذت أول ضربة خارج نطاقها وسط الأسابيع القليلة التي شهدت على تصاعدٍ كبير لملف ترسيم الحدود البحريّة، وقد تُصوّر ذلك أمام جمهورها بأنها استطاعت أن تلجمَ التوسّع الإيراني في المنطقة عبر هجمات مُتفرقة. حُكماً، الأمر هذا بات يتّضح تماماً، وما يُمكن تثبيته أكثر هو أنّ إسرائيل باتت تلجأُ لخطّة الضربات المُبعثرة القائمة على أهدافٍ مُحدّدة. أما في ما خصّ سوريا، فإن قوّتها اليوم ستكون أعمق وأقوى منذ 11 عاماً، في حين أنها ستكون أمام اختبارٍ فعليّ لإثبات وجودها كلاعبٍ قوي من جديد. فقبل سنوات، كان الرهان على الحرب من قبل محور الممانعة ليس قوياً كما اليوم، والسبب في ذلك قد يكون مرتبطاً بالوضع السوري الذي شهد على تفاقمٍ كبير. أما في المرحلة الحالية، فإن الأوضاع اختلفت، فـ"حزب الله" عاد من سوريا واستطاع ترميم وضعه العسكري بسرعة أكبر بعد سياق المعارك التي حصلت، كما أنه اكتسب خبرة إضافية في حرب العصابات التي خاضها ضدّ المجموعات الإرهابية. كذلك، فإنّ الجيش السوري بات في وضعِ يسمحُ له التحركّ بحرية أكبر بعد انتهاء معاركِه الكبرى في الداخل، ما يعني أنه قد يستعيد زمام المبادرة لنجدة "حزب الله" في أي حرب، سواء من ناحية تأمين خطوط الإمداد والسلاح والصواريخ بإشراف الخبراء الإيرانيين.
بشكل جازم، ما يُمكن تأكيده تماماً هو أنّ عودة سوريا إلى لبنان ستكونُ من بوابة معركة جديدة قد تحصلُ في أي لحظة، علماً أنه لا يمكن استثناء أي تأثيرٍ لجولات المفاوضات النووية الايرانية عما ستشهده المنطقة. ولكن، ما يقال بكل ثقة هو أنّ الاستنفار كبيرٌ جداً، والأيام المقبلة تحت الرّصد والترقب.