جاء في "الراي الكويتية":
كأنها "حرب شوارع" على طرق لبنان التي تكاد أن تتحوّل "مقابر مفتوحة" مع الحصيلة المأسوية، الكارثية والرهيبة لقتلى حوادث السير.
أرقام مُفْجِعة وقياسية لعدد الضحايا الذين يتساقطون على الطرق كأنهم «مجرد أرقام» لا أرواح ولا لحم ودم في بلادٍ تلهو بـ «القضايا الكبرى».
حوادث الإصطدام القاتلة "اليومية" غالباً ما تتكرّر وفي الأمكنة عيْنها أحياناً من دون أي مبادرة لتفادي الموت المجاني الذي صار أشبه بقدَر لا مفرّ منه.
إنها صناعة الموت على الطرق بلا حسيبٍ ولا رقيب، تخطف الأرواح بـ «لمح البصر» ومن دون ان يرفّ جفنٌ للمسؤولين الذين تأخذهم المعارك السياسية وأجنداتهم الخاصة.
وحده الإعلام ينتفض عند مقتل شخصية معروفة فيتحوّل الحادث المروري قضية رأي عام سرعان ما «تأكلها» الأزمات المفرطة التي تقضّ مضاجع اللبنانيين الذين صاروا إما يموتون بسرعة أو «على البطيء» في بلدٍ منكوب مالياً واجتماعياً وكأن الكل «محكومون بالإعدام» فيه.
أرقام مفزعة
4000 ضحية تفصل بين موت الممثل عصام بريدي العام 2015 ورحيل الفنان جورج الراسي قبل نحو أسبوع. رقمٌ تداولتْه الصحافة والناشطون ووافقت عليه جمعية «يازا».
سبعة أعوام حصدت من شباب لبنان أكثر من ثلاثة أضعاف حصيلة حرب يوليو 2006 الغاشمة (ذهب ضحيتها نحو 1200 شهيد لبناني)، في حوادث تركتْ بلا شك أيضاً آلاف المعوقين والمقعَدين والمصابين إصابات دائمة خلّفت ندوباً في أجسادهم وأرواحهم وأرواح أهاليهم ومحبيهم. واقعٌ بات يفوق القدرة على الإحتمال فهل من يأخذ العبر ويبادر في بلاد منهارة تُعانِد لعدم الإنزلاق إلى أعمق طبقات «الجحيم»؟
"الراي"سألت قوى الأمن الداخلي عن الأرقام الرسمية لعدد ضحايا السير منذ بدء الأزمة في لبنان عام 2019. فتبيّن أن 2019 حصد 537 قتيلاً و6797 جريحاً في 5117 حادث سير. وعام 2020 ومع إشتداد جائحة كورونا وما رافقها من حَجْر منزلي تَراجَعَ عدد حوادث السير إلى 3155 حصدت 410 قتلى و4173 جريحاً. أما في الأشهر الستة الأولى من 2021 فبلغ عدد القتلى 201 و1777 جريحاً. وبالمقارنة مع 2022 فإن الأشهر الستة الأولى منها شهدتْ إنخفاضاً حيث وصل عدد الحوادث إلى 886 حصدت 142 قتيلاً و1103 جرحى.
لكن إحصاءات شهريْ يوليو وأغسطس الماضييْن عادت لترفع حصيلة القتلى هذه السنة في شكل دراماتيكي إذ سجل أغسطس بحسب غرفة التحكم المروري التابعة لقوى الأمن 39 ضحية و186 جريحاً فيما حصد يوليو 40 ضحية و 210 جرحى ليرتفع عدد ضحايا عام 2022 الى 221 حتى اللحظة.
وأمام هذه الإحصاءات الرسمية لا بد من التساؤل عن التناقض بين الأرقام وبين ما تشهده الطرق من مآسي يومية ويثار في الإعلام. لكن مصدراً أمنياً مسؤولاً أكد لـ "الراي" أن الأرقام هي نتيجة التحقيقات التي تجريها قوى الأمن في كل الحوادث والتي تشير إلى إنخفاض في أعداد الضحايا نتيجة عوامل متعددة. وأشار الى أن لبنان يشهد سنوياً في فصل الصيف ولا سيما في أغسطس إرتفاعاً في عدد ضحايا السلامة المرورية والكوارث المرورية. حتى إن إحدى السنوات شهدت عدد ضحايا لامس 60 ضحية في هذا الشهر.
مَن يضع الكرة في ملعب المواطن؟
يؤكد المصدر الأمني المعني أن الحوادث إنخفضتْ لا لمعالجاتٍ تمت بل بسبب تراجع في عدد السيارات التي تستخدم الطرق وعدد السائقين والمسافات المقطوعة. وهذا مردّه إلى الغلاء الكبير في أسعار المحروقات من جهة وإلى هجرة الشباب اللبناني من جهة أخرى. لكن إنخفاض نسبة الحوادث لا ينفي أسبابها ولا يخفض ضحاياها، وهو أمر لا ينكره المصدر الأمني الذي يعترف بأن المشكلة متشعبة وتكمن في تدهور حال الطرق في لبنان والبنى التحتية وعدم صيانتها وتراجع صيانة السيارات وعدم القدرة على شراء القطع لها، أو شراء القطع المقلّدة ذات النوعية المتردية.
التدهور حاصل في كل مفاصل الدولة التي لم تعد قادرة على القيام بأقلّ واجباتها وحماية مواطنيها وتأمين سلامتهم. من هذا المنطلق يوجه المسؤول الأمني نداءً إلى السائقين قد يكون غريباً كونه صادر عن شخص في سدة المسؤولية ويناشد قائلاً: «في غياب الدولة فليتحلَّ كل سائق بالمسؤولية الشخصية ليحافظ على سلامته. تقصير الدولة والمسؤولين مزمن وعلى إزدياد، لذا فليأخذ كل سائق المبادرة يتجنب إرتكاب الأخطاء وأن يعتمد الحذر والإنتباه والإبتعاد عن مصادر الإلهاء ليكون هو مسؤولاً في غياب الدولة».
ليس هذا رمياً للكرة في ملعب المواطن المقهور بل هو تعبير عن واقع لا بد للبناني من الآن وصاعداً ان يتعايش معه ليحمي نفسه وهو واقع غياب الدولة الذي يعبّر عنه مسؤولوها.
"مصيدة" الراسي
من جهتها تطلق جمعية "يازا" المختصة بالسلامة المرورية مناشدات معكوسة وتطالب الدولة والوزارات المختصة في شكل يومي بتحمل مسؤولياتها وأخذ العبر من الحوادث القاتلة التي تشهدها الطرق. ولكن تبدو مناشداتها كالصوت الصارخ في البرية ولا من مستجيب.
منذ 28 عاماً واليازا تشهد على تقاذف المسؤوليات بين الإدارات المختصة بسلامة المرور وعدم تحمل المسؤولية في شكل جدي وفق ما يقول لـ «الراي» رئيس اليازا إنترناشيونال الدكتور زياد عقل. وهي معاناة تعيشها الجمعية والمواطنون على حد سواء.
"لا معالجات جدية لحل مشاكل السلامة المرورية، حتى قبل أزمة الإنهيار في لبنان" يقول عقل فـ "الفساد متمكّن في الإدارة اللبنانية ولم تزده الأزمة سوى إستفحالاً. ففي شهر سبتمبر 2016 نشرت يازا أنه في النقطة ذاتها التي شهدت مقتل الفنان جورج الراسي والسيدة زينة المرعبي كان حصل حادث سير مماثل قضى فيه ثلاثة أشخاص نتيجة إصطدام سيارتهم بالفاصل الإسمنتي نهاراً. ولم تحرك الإدارات المختصة ساكناً حينها ولم يعْنها أن تكون ثلاث عائلات وقتها قد إتشحت بالسواد وفقدت أحباء لها. ولو قامت أي إدارة بتصحيح هذا الخلل الفاضح في السلامة لَما كان جورج وزينة وقبلهما شاب آخر قد خسروا حياتهم في النقطة القاتلة ذاتها".
ويضيف عقل: "لا قيمة لحياة الإنسان في لبنان بالنسبة للسلامة المرورية، وثمة إستهتار كبير وواضح. قانون السير الذي أقرّه البرلمان اللبناني في عهد وزير الداخلية زياد بارود عام 2012 لَحَظَ إنشاء اللجنة الوطنية للسلامة المرورية لوضع حد لتقاذف المسؤوليات المستديم بين وزارات النقل والأشغال والداخلية والناس والتشبه بدول العالم أجمع حيث يتم توحيد الجهود بين الجميع لتأمين السلامة المرورية. ولكن للأسف، بعد عشر سنوات من صدور قانون السير ما زال حبراً على ورق ولا يُطبَّق إلا تجاه الناس. وأكثر من ذلك نحن نتقهقر إلى الوراء لا سيما في غياب المعاينة الميكانيكية وغياب صيانة السيارات والطرق".
حلول غير مكلفة فهل من يستجيب؟
قصة صيانة السيارات باتت معروفة، فالناس المعدَمون ما عادوا قادرين على مواكبة سياراتهم وتأمين تصليحها فيتركونها للقدَر. ولكن ماذا عن حال الطرق أو في الأساس ماذا عن هندستها وأخطائها والتعديات التي تطالها؟ أليس حادث جورج الراسي نتيجة خطأ قاتل في الطريق؟
المهندس المدني جورج رومانوس شرح لـ "الراي" سبب كثرة الحوادث القاتلة على الطرق اللبنانية ورده اإلى غياب الصيانة الكامل منذ خمسة أعوام. وقال "طرق لبنان لا سيما الرئيسية منها، مدروسة من شركات هندسية محترمة ومحترفة وتم تنفيذها وفق الأصول المتبعة عالمياً، لكن الشواذات والتعديات عليها ساهمت في تحويلها أمكنة خطرة. وبدوره ساهم غياب الصيانة التام والإضاءة وإنتشار الحفر وزيادة التعديات والفواصل العشوائية في زيادة الأخطار. ولكن كل هذه الشواذات كان في الإمكان تفادي آثارها القاتلة عبر إجراءات بسيطة غير مكلفة، مثل اللواصق العاكسة للضوء التي تشير إلى وجود عوائق في الطريق يجب تجنبها أو تشير إلى حدود الطريق الخارجية. تخطيط الطريق بالأبيض أو الأصفر، ووضع إشارات التحذير والتنبيه، كلها إجراءات بسيطة لا تكلف كثيراً لكنها تمنع الحوادث المميتة. فلو كان الفاصل الإسمنتي مزوَّداً ببراميل لامتصاص الصدمات أو أقلّه بلاصقات ضوئية لأمكن تحذير السائق وتفادي الحادث ربما".
الكل يرى المشكلة ويعرف أين مكامن الخلل، والقوى الأمنية تعرف أيضاً وكذلك الوزارات ولكن في بلاد أفلست أخلاقياً وسياسياً قبل أن تفلس مالياً، وفي بلاد أدمنت ثقافة الموت... مَن يحاسب؟ مَن يبادر إلى إنقاذ الأرواح ويعيد إلى الناس حياتهم الطبيعية؟ مَن يحفظ للأهل أبناءهم وللأحبة أحبتهم؟ ماذا يقول وزراء الأشغال المتعاقبين لبنات زينة المرعبي الثلاث وقد فقدنَ جناح الأم، ولوالدها العقيد المتقاعد الذي خدم الدولة لعقود ولم يلق منها إلا الجحود؟ ماذا يقولون لـ جو إبن جورج الراسي ووالدته الثكلى وشقيقاته هو الذي حَمَلَ معه الفرح وغادر مجبَراً؟ أليس واجب الصحافة والناس والناشطين أن يُبْقوا الصوت عالياً حتى لا يكون مقتل الشابين زوبعة في فنجان تنتهي فصولها مع انتهاء مراسم العزاء؟