على وقع الاستحقاقات الداهمة سياسيًا، والأزمات المتفاقمة اقتصاديًا ومعيشيًا، يعود التلويح بـ"لعبة الشارع" ليتصدّر المشهد الداخلي، قبل شهر ونيّف من ذكرى حراك "17 تشرين" الشهير، الذي يحلو للبعض وصفه بـ"الثورة اللبنانية"، وإن لم يُكتَب لها أن تصمد طويلاً، بعدما أطاحت بها ظروف جائحة كورونا، معطوفة على أزمة غير مسبوقة، صنّفتها المؤسسات الدولية من بين"الأسوأ على الإطلاق" في تاريخ العالم.
فقد حضر "الشارع" في متن "المبادرة الرئاسية الإنقاذية" التي أطلقها نواب قوى "التغيير"، وهم الآتون من رحم "17 تشرين"، حين أعطوا مبادرتهم "مهلة صلاحية" تنتهي قبل عشرة أيام من انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون، مانحين نفسهم حقّ اللجوء بعد ذلك "لوسائل الضغط الشعبية المشروعة بكل أشكالها وأساليبها"،من أجل "فرض" انتخاب رئيس الجمهورية المنشود، وفقًا لمضمون المبادرة، وبحسب ما جاء في نصّها.
وقبل نواب "التغيير"، لوّح "التيار الوطني الحر" باللجوء إلى الشارع، لكن ليس من أجل "فرض" انتخاب رئيس، بعدما أسهم "التيار" في حدوث "الفراغ" قبل سنوات، ولكن من أجل "الضغط سياسيًا"، في حال عدم تشكيل حكومة جديدة، وفق ما يشترط "العونيون"، حتى إنّ بينهم من قال إنّ الشارع سيكون "الملاذ" لمنع استلام حكومة تصريف الأعمال صلاحيات رئيس الجمهورية، رغم أنّ الدستور واضح في هذا الشأن.
"لعبة خطرة"
هكذا، يبدو الشارع مرّة أخرى "ورقة ضغط" في يد القوى السياسية، تحتفظ بها من أجل محاولة "فرض" بعض المطالب والشروط، ولو أنّه في المبدأ، حقّ بديهي ومشروع لكلّ من يتعاطى بالشأن العام، وهو ما انطلق منه "التغييريون" أساسًا في مبادرتهم، حين أوحوا برغبتهم في توظيف الشارع، لا من أجل مكاسب خاصة، بل لـ"فرض" إنجاز الاستحقاق الرئاسي في مواقيته، ومن باب الاحتجاج على ممارسات وسلوكيات سياسية، يعتقد كثيرون أنّها لا تفضي إلى مكان.
لكن، بعيدًا عن هذا الحق المشروع، الذي كرّسه حراك "17 تشرين"، بأبهى حلله، إن جاز التعبير، ثمة من يخشى فعليًا من "لعبة الشارع"، في ظلّ الأزمات التي يعيشها لبنان، وفي ضوء الانقسام العمودي للمجتمع اللبناني، خصوصًا أنّ الجميع يدرك انّه مقابل كل شارع في لبنان، هناك شارع مضاد قد يكون مستعدًا للمواجهة، وهو ما يمكن أن يصبح أكثر من "خطير" في حال وقوع "الفراغ"، مع ما قد يولّده من انعدام للاستقرار على أكثر من مستوى.
وثمّة من يحذر في هذا السياق، من "السيناريو العراقي"، الذي تبدو الحالة اللبنانية أكثر من "بيئة خصبة" لاستنساخه بشكل أو بآخر، علمًا أنّ "لعبة الشارع" التي لجأت إليها القوى السياسية في العراق، لم تكن سببًا في استدامة الأزمة المستمرّة منذ الانتخابات المبكرة التي لم تفرز أكثرية واضحة، بل خلقت جوًا صداميًا انعكس في الشارع توترات، كادت تأخذ البلاد إلى المجهول، بعنوان "الفتنة"، التي تمّ "تداركها" في اللحظة الأخيرة قبل أيام.
"الثورة الآتية"
هكذا، فإنّ الشارع بوصفه "ورقة ضغط" بيد القوى السياسية، يمكن أن يكون خطيرًا، خصوصًا إذا دخلت الاعتبارات الطائفية والمذهبية على حقه، كما يلوّح بعض أطراف الأزمة، حين يهدّدون بالشارع للدفاع عن "حقوق" طائفة ما، أو حتى لتبرير "مخالفة الدستور"، وهو ما يثير الكثير من علامات الاستفهام، عن "جدوى" اللجوء لمثل هذا الخيار، في العملية السياسية التي ينبغي أن تتقيد بما تنصّ عليه القوانين المرعية الإجراء في هذا الخصوص.
لكن، أبعد من السياسة، ثمّة من يعتبر أن "الثورة"، سواء كانت "تشرينية" أم غير ذلك، قد تصبح "تحصيلاً حاصلاً" في أمد غير بعيد، إذا ما استمرّت الأزمات تراوح مكانها، فالبلاد تكاد "تخرج عن الخدمة"، إن جاز التعبير، ربطًا بخروج الكثير من القطاعات الأساسية بل "الحيوية" عن الخدمة، وآخرها قطاع الاتصالات، على وقع الإضرابات العمالية في الأيام الأخيرة، خصوصًا أنّ انقطاع الإنترنت سيلحق ضررًا كبيرًا بالكثير من الموظفين.
ولا شكّ أنّ هذه الأزمة ليست "منعزلة" عن سواها من الأزمات "المفتوحة" التي يتخبّط فيها البلد، في ظلّ الارتفاع المستمرّ في سعر الدولار، بعدما فقدت العملة الوطنية قيمتها، وفي ظلّ غلاء الأسعار الذي بات يشمل كل القطاعات، ناهيك عن "التحذيرات" من أزمات وفوضى مضافة، قد يكون رفع الدعم عن البنزين بالكامل، الذي بدأ البعض "يبشّر" به في اليومين الماضيين، يجعل كلّ مقوّمات "الثورة" حاضرة، وربما أكثر.
ثمّة من يقول إنّ "الثورة" مُستبعَدة في الوقت الحاضر، فالشارع لن يكون في هذه المرحلة سوى "وقود" للسياسيين، وربما أداة "ضغط" أو حتى "ابتزاز" لتحقيق بعض المكاسب. أما شارع "الثورة"، فرغم أنّه يفترض أن يكون "تحصيلاً حاصلاً" في ظل الأزمات المتفاقمة، إلا أنّ استعادته لحيويته "مؤجّلة"، ربما لأن "أولويات" الناس أصبحت في مكان آخر، هم الذين باتوا "يطبّعون" مع الأزمات، ويبحثون عن "بدائل" للصمود ليس إلا!