كتب نقولا ناصيف في" الاخبار": منذ الامتحان الأول لانتخاب قائد للجيش رئيساً للجمهورية، أضحى بلوغ المنصب مشروعاً، وصار يُعدّ حقاً مكتسباً بأن درج، وبات تقليداً في كل استحقاق تقريباً، ويكون ثمة مرشح محتمل له. بات طبيعياً لكل قائد للجيش أن لا يستثني نفسه، وينتظر الأوان الذي يأتي أو لا يأتي.
كأي قائد للجيش، سواء رَامَ وضمر او جهر وتجرأ او تجاهل كأنه غير معني، يدرك صاحب المنصب ان الظرف وحده يضعه في الهدف. لا يعود مهماً اذذاك الافراط في كلام السياسة او تقتيره. لذا يكون من الطبيعي ان يهتم القادة المتعاقبون بالكلام في السياسة في غرف منعزلة، ويتجنبونه في الحلقات المفتوحة. احد شروط اقفال الابواب تفادي اللقاء بالصحافيين في اشهر الخصوبة في الاستحقاق الرئاسي. كلاهما، الافصاح والاستنتاج، مضران مع ان اياً منهما لا يصنع من القائد رئيساً.
يقتضي بكل قائد للجيش - لأنه مرشح طبيعي في أوان السلم والحرب معاً - الانتظار بصبرٍ اخفاق السياسيين في اتفاقهم على رئيس من بينهم، كي يُبرَّر لهم المخرج الصائب في رئيس لا يمت بصلة الى مجتمعهم، ان لم يكن نقيضهم. في الغالب يملأ القادة المحتملون للرئاسة، في كل عهد، الوقت للتدرّب على ما قد يأتي فلا يفاجئهم اذا اتى، ولا يخيّبهم اذا خبا. لجان عبيد عبارة مأثورة هي ان الاستحقاق الرئاسي هو من «حسن حظ البعض وسوء حظ البعض الآخر».
في الثلث الثاني من وجوده في القيادة، واجه جوزف عون اعداء غير منظورين كانوا الاشد ضراوة. كان عليه مقاتلة مفاهيم اكثر منها خصوماً يشهرون عليه اسلحتهم. اولهم الحراك الشعبي في 17 تشرين الاول 2019. ليس عدواً لكن الاعتقاد بأن تداعيات ما نشأ عن ظاهرته اخفى كأن ثمة عدواً وراءه. ثانيهم محاولة زج الجيش في اشتباك مباشر مع الطوائف دونما ان يتكشف امامه العدو المعلن له: صدام محتمل مع المسيحيين في جل الديب وذوق مكايل في خلال الاحتجاج الشعبي، صدام محتمل مع الشيعة في الطيونة، صدام محتمل مع الدروز في شويا وقبرشمون. ثالثهم الضائقة المعيشية التي يجبهها جيشه وينذر وحدته وانضباطه ويعرّضه الى التفلت، دونما ان يعرف العدو الذي يُصوِّب عليه سوى انه الطبقة السياسية المتنصلة. رابعهم الترسيم البحري الذي دُعي اليه وانجز مهمته فيه قبل ان يتبين له - وان لدور تقني محدود ليس الا - انه لم يكن سوى اداة مناورة كي يستخلص السياسيون التسوية والصفقة.
كلٌ من اختبارات القوة هذه عنى ضمناً امتحان الجيش نفسه بنفسه. كل ما فيها او اختفى وراءها سياسي. كان على الجيش وقائده منذ 17 تشرين الاول 2019، وليست الفصول التالية المنشِئة لاختبارات القوة تلك الا عدّة شغلها، ان يتفادى في جل الديب وزوق مكايل خصوصاً - وفي كل لبنان عموماً - منع عسكرييه من الانجرار الى انفعالات اللبنانيين، ومنعهم من فقدانهم انضباطهم والانضمام الى «الثورة» المعني كل جيش عندما تكون في مواجهة النظام إما الالتحاق بها او قمعها، ومنعهم من الاصطدام بالمحتجين، ومنعهم كذلك من اشتباك «الثورة» بـ«الثورة المضادة» بين مناوئي الطبقة السياسية وحَمَلة عصيّها.
كان عليه في 30 حزيران 2019 الحؤول دون اشتباك درزي - درزي وآخر درزي - مسيحي بسبب انفعالات وتهوّر متبادلين: ان يُقتل ثلاثة دروز من الحزب التقدمي الاشتراكي والحزب الديموقراطي اللبناني بسبب تهور مسيحي نجم عن نبش جبران باسيل ماضي النزاعات المسيحية - الدرزية عام 1989. اطلقت النار على موكب الوزير صالح الغريب فقُتل مرافقاه، كرد فعل غاضب من انصار وليد جنبلاط. كان المحسوب ان يمر باسيل في قبر شمون ويُعتدى عليه انتقاماً من استفزازه، كي ينفجر اذذاك صدام درزي - مسيحي. انفجر كذلك نزاع لا يقل وطأة، درزي - شيعي، في شويا في 6 آب 2021 عندما هاجم دروز البلدة عناصر من حزب الله اطلقوا صواريخ الى اسرائيل من اراضيها. احتجزوا العناصر والمنصة. لتفادي الاسوأ كان على الجيش الفصل بين فريقين كانا جرّبا الاقتتال عام 2008، بأن تسلّم هؤلاء واعادهم الى الحزب لاحقاً.
اختار جوزف عون كذلك، في يوم نزاع اوشك التحوّل فتنة طائفية في 14 تشرين الاول 2021 في الطيونة، تداركها باصدار الجيش بياناً يأمر الجنود باطلاق النار على كل مسلح في الشارع او كل احد يطلق النار من اي جهة. سرعان ما اقترن الامر بتنفيذه، كان كافياً للجم ما كان يُعدّ سلفاً، بأن قتل عسكري ثلاثة مسلحين هاجموه بأسلحتهم لانتزاع بندقيته منه. يومذاك انطفأت الفتنة عند هذا الحد، مع ان طرفي المواجهة الثنائي الشيعي والقوات اللبنانية، كواجهتين لتاريخ دموي قديم للشياح وعين الرمانة، استغرقا في تبادل الاتهامات السياسية.
لم يقفز جوزف عون فوق الخطوط الحمر، ولم ينكفىء تحتها. ما بينها تمكن من ان يفعل دائماً شيئاً مهماً ومتطلباً.