فيما كان رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل يجدّد الدعوة إلى "تطوير النظام"، باعتبار أنّ انتخاب رئيس جديد، أيًا كان، لن يحقق "التغيير"، مدافعًا في الوقت نفسه عن نظرية "الرئيس القوي"، كان البطريرك الماروني بشارة الراعي يوجّه "رسائل" في غاية الأهمية، عبر تحذيره من "إقصاء" الدور المسيحي، وتحديدًا الماروني، عن السلطة، من خلال السعي لتعطيل الاستحقاق الرئاسي.
وإذا كان كلام البطريرك الراعي "مفهومًا" في ظلّ تعامل الكثير من القوى السياسية مع الفراغ على أنه "تحصيل حاصل"، وبينها قوى مسيحية تعطي الأولوية لتشكيل حكومة "تغطّي" الشغور الذي سيحدث مع انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، فإنّ أهميته تتعزّز عندما يأتي بعد 24 ساعة على لقاء دار الفتوى، الذي خلص إلى تأكيد العمل على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، في الموعد المحدَّد، يكون "ممّن يحترمون الدستور".
ولعلّ كلام الراعي جاء "متكاملاً" بشكل أو بآخر، مع كلام مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان في لقاء دار الفتوى، حيث حدّد "مواصفات" رئيس الجمهورية المفترض، ومنها الحفاظ على ثوابت الطائف والدستور والعيش المشترك، وإنهاء الاشتباك المصطنع والطائفي والانقسامي بشأن الصلاحيات، وقبل هذا وذاك، الاتصاف بصفات رجل العمل العام الشخصية والسياسية، وتحديدًا بالحكمة والمسؤولية، وبالقدرة على أن يكون "جامعًا للبنانيين".
نقاط مشتركة
قد تكون نقاط التلاقي بين كلمتي مفتي الجمهورية والبطريرك الماروني أكثر من أن تُعَدّ وتُحصى، لكنّ أهمّها على الإطلاق تكمن في التأكيد على أهمية التوافق والتفاهم، إلى جانب تكريس الثوابت، والالتزام بالدستور، الذي وُضِع لانتخاب رئيس للجمهورية، لا لإحداث شغور رئاسي، كما جاء في عظة الراعي، الذي أكد أن انتخاب الرئيس شرط حيوي لتبقى الجمهورية ولا تنزلق في واقع التفتت الذي ألمّ بدول محيطة.
ولعلّ "التكامل" بدا أكثر وضوحًا وتجليًا في الحديث عن الرئيس "المسيحي"، لكن من منطلقات وطنية لا طائفية، إذ إنّ تحذير البطريرك الراعي من "إقصاء الدور المسيحي"، بدا أكثر من "متناغم" مع الأهمية "الفائقة" التي منحها مفتي الجمهورية لمنصب رئيس الجمهورية في لبنان بالتحديد، فهو رمز العيش المشترك الذي يقوم عليه النظام الذي اصطلح عليه اللبنانيون، لكنه أيضًا "الرئيس المسيحي الوحيد في العالم العربي".
ويقول العارفون إنّ هذا "التناغم" بين كلمتي الراعي ودريان قد يكون أكثر من مهمّ ومفيد، خصوصًا أنّه جاء ليؤكد على قيمة "التنوّع والغنى"، ويضع حدًا لاشتباك لا يزال كثيرون يصرّون على صبغه بشعارات "طائفية ومذهبية" لا تسمن ولا تغني من جوع، وهو بذلك يضع حدًا لإشكاليات "الصلاحيات والحقوق" التي لا يبدو أنّها ستنتهي فصولاً، على أبواب استحقاقات، قد تكون مدخلاً نحو الحلول، أو نحو تعقيدات غير محمودة.
الديمقراطية أولاً!
لكن، أبعد من التأكيد على الثوابت، والتذكير بالهواجس، ثمّة من قرأ "رسائل" في غاية الأهمية بين "سطور" عظة البطريرك الماروني، قد تكون موجّهة إلى القوى السياسية المسيحية بالدرجة الأولى، حيث أراد ربما تحميلها مسؤولية "إقصاء الدور" من خلال الإسهام في تعطيل إنجاز الاستحقاق الرئاسي في موعده، وهو ما اعتبره "جريمة سياسية وطنية وكيانية" تفوق بتجلياتها مسألة "الدفاع عن الحقوق" التي تكاد تتحول إلى "شعارات" ليس إلا.
يقول العارفون إنّ كلام الراعي في هذا الصدد قد يحمل أكثر من معنى، وأكثر من بعد، بحسب الزوايا التي يمكن فهمها من خلاله، فهو قد يكون "محفّزًا" على التفاهم على المستوى المسيحي الضيق، أو الوطني الأعمّ، خصوصًا أنّ البطريرك أكد في مستهل كلامه أنّ التوافق الداخلي "فكرة حميدة"، ولو أنّه اعتبر أنّ ملامحه لم تلح بعد، وكأنّه بذلك يحثّ المعنيّين على طرق أبواب الحوار، بعيدًا عن المزايدة والتحدّي والمواجهة.
لكنّ البعد الأهمّ يبقى، وفق المتابعين، ضرورة اتباع آليات العمل الديمقراطي، لأنّ ما يعلو على التوافق هو إنجاز الاستحقاق، فالمطلوب هو انتخاب الرئيس، وفق النصّ الدستوري، ولعلّه بذلك ردّ ضمنًا على حديث رئيس البرلمان نبيه بري عن انتظاره "التوافق" ليدعو إلى جلسة انتخاب الرئيس، لكنّه أيضًا ردّ على محاولات "تجاوز الدستور"، عبر "ابتداع" آليات انتخابية، مغايرة لتلك الواضحة التي نصّت عليها القوانين، بدون أيّ لبس.
قد يكون مفتي الجمهورية والبطريرك الماروني التقيا على تأكيد وجوب انتخاب رئيس الجمهورية في الوقت المحدّد، بمعزل عن أيّ حسابات أخرى. لكنّ المفارقة انّ هذا "المبدأ" يتقاطع عليه الجميع، فالوزير باسيل أكد من جهته أنه لا "يرغب بالاعتياد على خبرية الفراغ"، ومثله يقول رئيس حزب "القوات" سمير جعجع، وغيره، ممّن يتلاقون أيضًا على "التلويح" بتعطيل "نصاب" أيّ جلسة، إذا لم تكن نتيجتها "مضمونة"، ما يترك أبواب "المجهول" مفتوحة على مصراعيها، أكثر من أيّ شيء آخر!