الأرجح أن علوم الطب والروبوت والنانوتكنولوجيا سارت خطوة أخرى نحو تحقيق ما كان خيالاً علميّاً قبل سنوات قليلة. واقتربت التكنولوجيا أخيراً من تحقيق ذلك الحلم الذي رسمه فيلم "الرحلة الرائعة" (Fantastic Voyage 1966، بطولة راكيل والش، إخراج: ريتشارد فلايشر) ورسم ديكوراته الرسام السوريـالي الشهير سلفادور دالي. وعلى شاشات السينما، ظهر خيال عن بعثة طبية توضع داخل غواصة، يجري تصغيرها كي تصبح أصغر من حبة رزّ، ثم تحقن في دم مريض مشارف على الموت، كي تجري له عملية دقيقة.
وحاضراً، أعطت التقنيّات الرقمية الطب طريقة جديدة في العلاج تتمثّل في إدخال رقاقة إلكترونيّة صغيرة مصنوعة بمقياس النانومتر (= جزء من البليون من المتر) لتساهم في علاج المريض، إضافة إلى قدرتها على مراقبة الأشخاص "من داخلهم". وكذلك توضع رقاقات نانوية تعمل بموجات الراديو (مثل الخليوي)، في سياق ما يعرف علمياً باسم تقنية "الحبوب الذكيّة" Smart Pills. وتعمل كأجهزة استشعار حقيقيّة يمكن تتّبعها عن بعد وتسمح بنقل معلومات من داخل أجساد المرضى إلى الأطباء.
من ناحية أخرى، لنتخيل للحظة عالماً صار قريب التحقق، تستطيع التقنيّات فيه أن تراقب ما يأكله أو يشربه كل فرد. إذ تستطيع رقاقات "صالحة للأكل" أن تنقل معلومات عن الجسد الذي دخلته إلى السلطات المختلفة، عن طريق موجات لاسلكية.
في سياق صنع تلك الأقراص الدوائية الذكية، استطاعت شركة "بروتيوس بيوميديكال" Proteus Biomedical أن تحصل على براءة اختراع لأحد الابتكارات في ذلك المجال. وصُنِع القرص الذكي في شركة "ريدوود سيتي" (مقرها كاليفورنيا) وهي رائدة في مجال الطب الذكي Intelligent Medicine، تمتلك اتفاقية ترخيص وتعاون عالميّة حصريّة مع شركة "نوفارتيس" Novartis العملاقة للأدوية. ويحتوي القرص على تقنيّات مبتكرة تعتمد على أجهزة استشعار متقدّمة، مخصصة للتعامل مع عمليات زراعة الأعضاء.
تتلقى "نوفارتيس" أيضاً حقوق اختيار تطبيقات رقميّة معيّنة تتعلق بأدوية القلب والأوعية الدموية والأورام السرطانية، إضافة إلى امتلاكها حقوق التقينات التي تصنعها شركة "بروتيوس" في الأدوية.
وبالعودة إلى القرص الذكي المشار إليه آنفاً، يلاحظ أنه يصبح "نشطاً" بمعنى أن دوائره الإلكترونيّة تطلق تيارات كهربائية في داخله، عندما يتفاعل مع حمض المعدة، مع التذكير بأن تلك الرقاقة مغلّفة داخل القرص. وبعدها، تبدأ الشريحة النانويّة التعرف إلى البيئة المحيطة بها، كأن تقيس الحرارة والرطوبة وتدفق الدم ونوعيّة الأنسجة والوقت الذي دخلت فيه إلى الجسم (عندما ابتلعها المريض) وغيرها. وفي خطوة تالية، يجري بث تلك المعلومات لاسلكياً إلى جهاز استقبال خارجي يكون عند المريض الذي يستطيع الأخير نقلها إلى طبيبه بواسطة الإنترنت.
إذاً، تتمثّل الميزة الأساسيّة من صنع "حبوب ذكيّة" في أنها تستطيع اكتشاف ما يحدث في الجسم، وتنقل ذلك إلى المريض والطبيب.
وفي تفاصيل إضافية، تتعامل الشريحة الإلكترونيّة للقرص الذكي مع الجسم بواسطة ذبذبات ذات ترددات عالية، وهي تعطي القرص "هويته" المميزة. ويلتقط المريض المعلومات الصادرة من القرص الذكي بواسطة رقعة إلكترونيّة يربطها على جسمه، وتكون مخصصة لمتابعة مسار ذلك القرص.
بيانات عن جسم كل فرد
غالباً ما يدأب الإعلام العام على تقديم القرص الذكي وشريحته الإلكترونيّة بصورة تقتصر على الجوانب الإيجابية منها، ربما كي يتقبلها الناس ويروج استعمالها. في المقابل، يلاحظ أن بعض الشركات العالميّة في صناعة الأدوية ("نوفارتيس" مثلاً) لم تخطط حتى الآن لإجراء تجارب سريرية خوفاً على سلامة المرضى بعد ابتلاع الرقاقات النانوية المغلفة في القرص الذكي.
وتصنع تلك الرقاقات من مكونات شائعة في الأطعمة، إضافة إلى تراكيب من مكوّنات النحاس والمغنيسيوم والسيليكون. وبغض النظر عما إذا كانت مصنوعة من مكونات صالحة للأكل أم لا، يشكل ابتلاعها خطراً صحيّاً حقيقيّاً، وكذلك هناك احتمال أن تؤدي ترددات موجات الراديو المستخدمة فيها، إلى تخريب في تركيبة الحمض النووي الوراثي ("دي أن أي" DNA) في الخلايا، فينفتح باب ظهور تراكيب جينيّة معدّلة تؤدي إلى تطوّر أورام خبيثة.
الأرجح أن هناك مساراً متصاعداً في تقنيات تحويل الإنسان آلة، ربما على طريقة السيارة التي نغير بعض مكوناتها عندما تخرب.
وكذلك يتوقع أن تستثار رغبة جمهور واسع في زرع أجهزة للاستشعار والتتبع والتحليل والكشف وغيرها، على رغم الحقيقة البسيطة بأن تلك الأجهزة كلها تعمل أيضاً أدوات للتجسس، على غرار الحال مع الخليوي!
(غسان مراد - الحياة)