لم يكن مشهد الشهيدين إلا واحدا من عشرات إن لم تكن مئات الوقائع والأحداث التي مرت بها الأيام العشرة المستعرة من حرب جباليا الثانية، التي وصفتها الصحف الإسرائيلية بأنها الأشرس والأنكى منذ السابع من تشرين الأول الماضي.
رائحة الموت تحل اليوم محل نفحات البخور والورس المسافر عبر القرون، فمنذ مبتسم الخليقة الأول، وجباليا إحدى وجنات الشمس المتوردة، وريف فلسطين، وإحدى مشارق أنوار الحضارة والعمران.
ومنذ التاسع من تشرين الاول، وبعد يومين من الطوفان، بدأت جباليا في استلام حصتها من الانتقام الإسرائيلي العنيف بقصف السوق الشعبي في المدينة، ليرتقي 50 شهيدا في دقائق.
وفي مدرسة الفاخورة حيث كانت الفصول والسبورات ترسم قصة كفاح علمي، كان سكان جباليا على موعد مع مجزرة أخرى راح ضحيتها 200 شخص تحت موجة من القذائف المدمرة، قبل أن يتوالى عداد المجازر في المدينة الصامدة.
وخلال الأشهر الماضية حاولت إسرائيل أكثر من مرة التوغل في مخيم جباليا، لكن الفشل كان لها بالمرصاد في كل مرة، ولكنها عادت قبل أيام تحاول أن تحقق ما فشلت فيه في مرات سابقة.
وكما تحترق الدبابات، وتغوص الآليات في وحل جباليا، يتساقط الجنود الإسرائيليون قتلى وجرحى بوتيرة عداد ينتقل بشكل متصاعد بين الآحاد إلى العشرات، رغم شح ما تعترف به تل أبيب من ضحايا جنودها كما تؤكد المقاومة.
أيام من النار واللهب والدمار، والمباني التي أصبح عاليها سافلها، تواصل الآلة الإسرائيلية السحق، وتواصل المقاومة التصدي، وتحت الركام لا تزال جثامين العشرات من الشهداء تحت الأنقاض، تكتب هي الأخرى قصة لا متناهية من جرائم الاحتلال ضد الأرض والناس في جباليا وما جاورها، وفي جميع أنحاء القطاع.
ووفق ما أعلنه الدفاع المدني الفلسطيني في شمال غزة، فإن مئات الشهداء قد استشهدوا إثر تدمير أكثر من 300 منزل، ولعل ما بقي تحت الأنقاض مما لم يكن انتشاله، قريبا أو أكثر ممن أخرج من تحت الركام.
أما على صعيد الخسائر في جيش الاحتلال، فقد تمكنت المقاومة من تدمير عشرات الآليات العسكرية الإسرائيلية بين دبابة وجرافة وناقلة جند، وواصل قناصوها مد لائحة القتلى الإسرائيليين بأرقام جديدة، وضحايا يزيدون حجم الغضب والحنق في تل أبيب.
ولشراسة المعركة بات الطرفان على يقين بأنها معركة حياة أو موت، وخصوصا بالنسبة للفلسطينيين الذين لا تعني لهم الحياة شيئا أكثر من الموت بشرف وصمود.
بدأت الحرب العَوان في جباليا بتقدم الفرقة 98 معززة باللواء السابع واللواء 460 المدرعين نحو المخيم، تسنده فرق من الكتائب الهندسية لإقامة بعض الحفر، وفتح ثغرات في الطريق، والعمل على اكتشاف وتخريب الأنفاق، كان الهدف واضحا ومحددا، لكن الطريق إليه كانت عسيرة جدا، وتفرقت أوصال اللواءين بمواجهة الرصاص الفلسطيني، ليعزز لاحقا بلواء المظليين، الذي بدأ قصف جباليا في أول مهمة له في هذا المخيم منذ بداية الطوفان.
ورغم أن الألوية المذكورة تمكنت من دخول المخيم والتوغل فيه عمقا بعد أن فشلت في ذلك سابقا -وربما كان لتكتيكات المقاومة دور في ذلك- فإن تلك القوات كانت تضطر للتراجع كل حين تحت قصف القنابل الرعدية التي تطلقها المقاومة، وتحت رشقات القناصين المحترفين في كتائب القسام وغيرها من فصائل جباليا.
ومع حجم الدمار الذي نشره الجيش الإسرائيلي في جباليا، بالتوازي مع حجم الإخفاق، بات جليا -وفق صحيفة هآرتس الإسرائيلية- أن غالبية الجنود يعتقدون أن قادتهم يدفعون بهم إلى عملية عبثية لا أمل في انتصار من خلفها.
وتزداد ضراوة المعارك في جباليا مع تحول عدد كبير من المنازل إلى مقانص مفخخة، تنفجر بمن فيها حينما يلجها الجنود الإسرائيليون بحثا عن فتحة نفق أو محاولة لانتشال جثة، أو إسعاف مصاب، أو احتماء من لهب قناص، وهو ما يضفي من جديد صعوبة على الحرب التي يخوضها جنود مدربون على الحروب التقليدية، خصوصا أن مقاتلي حماس باتوا أكثر احترافية وخبرة، وفق ما ينقل إعلام عدوهم الإسرائيلي.
لماذا وكيف تصمد جباليا؟
تتعاضد في صمود جباليا عوامل متعددة، أقواها صبر المقاومة، وخبرتها المتصاعدة، واعتبارها جباليا معركة موت أو حياة، وإلى جانب هذا العامل الأسطوري، تنضاف عوامل أخرى بالغة الأهمية من أبرزها:
التشكيل الجغرافي في جباليا، ذات الأنفاق الطويلة والمتشعبة، والحارات المتقاربة جدا، والكثافة السكانية العالية، وهو ما يجعل التحرك الإسرائيلي فيها بطيئا ومتعثرا، خصوصا بالنسبة للجيش الإسرائيلي الذي يتحرك في قطع عسكرية متجاورة يحاول بعضها شد بعض، قبل أن تقطع المقاومة باللهب حبل تعاضدها.
وتلك الوضعية جعلت الأولوية الإسرائيلية تجد نفسها في مواجهة نيران "صديقة" أحيانا وغير صديقة، في معظم الأحيان تأتيهم من فوقهم، ومن بين أيديهم ومن أسفل منهم.
وبين تلك المؤشرات المتعددة، تصنع جباليا واحدة من قصصها التاريخية التي لا تنتهي منذ أن صافحت جبالها وجنات الشمس، لتكون مبتدأ التاريخ وأروع أخبار الصمود. (الجزيرة)