أثار إعلان الرئيس الكوري الجنوبي، يون سوك يول، فرض الأحكام العرفية، ليل الثلاثاء-الأربعاء، أزمة سياسية حادة، هي الأولى من نوعها في البلاد منذ عقود.
واتخذ يون قراره المفاجئ في خضم أزمة متصاعدة مع المعارضة حول الميزانية العامة، إلا أن محاولته لم تستمر طويلا. فقد أجبرته الضغوط السياسية والشعبية على التراجع بعد ساعات قليلة من إعلانه.
وسارع البرلمان، الذي تهيمن عليه المعارضة، إلى عقد جلسة طارئة صوّت خلالها على رفض الأحكام العرفية. ورغم إعلان الجيش في البداية أنه لن ينفذ قرار البرلمان، إلا أن يون رضخ في النهاية وأعلن في خطاب متلفز قبوله قرار النواب.
وتعيد هذه الأزمة إلى الأذهان صفحات مضطربة من تاريخ كوريا الجنوبية، التي عانت من فترات طويلة من الحكم العسكري والأحكام العرفية منذ تأسيسها عام 1948.
ما هي الأحكام العرفية؟
يتمتع الرئيس، بموجب الدستور الكوري الجنوبي، بصلاحية إعلان الأحكام العرفية في حالات الحرب أو النزاع المسلح أو الطوارئ الوطنية.
وتنقسم الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية إلى نوعين: الأحكام العرفية الطارئة، والأحكام العرفية الأمنية.
وقد لجأ الرئيس يون إلى النوع الأول، الذي يمنح الحكومة صلاحيات واسعة تشمل تقييد حرية الصحافة والتجمع، وتجاوز سلطة المحاكم المدنية، وغيرها من الإجراءات الاستثنائية.
ويلزم الدستور الرئيس بإخطار الجمعية الوطنية، عند إعلان الأحكام العرفية. وفي حال صوتت الجمعية بأغلبية أعضائها على المطالبة برفع الأحكام العرفية، كما حدث في الحالة الأخيرة ـ يتعين على الرئيس الامتثال لهذا القرار.
تاريخ الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية
عاشت كوريا الجنوبية 4 عقود تحت سطوة الحكم العسكري قبل أن تنتقل إلى النظام الديمقراطي في أواخر الثمانينيات، في مسيرة طويلة طبعها التدخل المتكرر للجيش في الشؤون المدنية والسياسية منذ تأسيس الدولة.
وتكشف مراجعة التاريخ الكوري أن أول تطبيق للأحكام العرفية يعود إلى عام 1948، بعد أشهر قليلة من تأسيس البلاد رسميا، حين أعلنها أول رئيس، سينغمان ري، الذي تعاون مع القوات الأميركية لقمع تمرد عسكري بقيادة شيوعية. وعاد ري ليفرض الأحكام العرفية مرة أخرى عام 1952 خلال الحرب الكورية.
وخلال فترات الحكم الديكتاتوري التي أعقبت إعادة بناء البلاد من دمار الحرب ضد الجارة الشمالية (1950-1953)، لجأ قادة البلاد بشكل متكرر إلى إعلان الأحكام العرفية في مواجهة المعارضة.
وتجسد هذا المسار بوضوح في حكم الديكتاتور بارك تشونغ-هي، الذي وصل إلى السلطة عبر أول انقلاب ناجح في البلاد في 16 أيار 1961، وحكم كوريا الجنوبية لما يقرب من عشرين عاما حتى اغتياله على يد رئيس مخابراته عام 1979، وخلال فترة ولايته كان يلجأ من حين لآخر إلى إعلان الأحكام العرفية لقمع الاحتجاجات وسجن منتقديه.
وشكل اغتيال بارك نقطة تحول في تاريخ البلاد. فبعد أقل من شهرين من وفاته، قاد اللواء تشون دو-هوان دبابات وقوات إلى سيول في ديسمبر 1979 في ثاني انقلاب عسكري ناجح.
وتحت ضغط المجموعة العسكرية بقيادة تشون، مدد رئيس الوزراء تشوي كيو-ها - الذي سيصبح رئيساً للبلاد فيما بعد- الأحكام العرفية حتى عام 1980، وحظر بموجبها النشاط الحزبي، مما أشعل شرارة احتجاجات واسعة في البلاد.
وبلغت المظاهرات ذروتها في مدينة غوانغجو، جنوب غرب كوريا، حيث نفذت السلطات حملة عنيفة ضد المحتجين المؤيدين للديمقراطية.
وبحسب الأرقام الرسمية، سقط 191 قتيلاً، بينهم 26 من الجنود ورجال الشرطة، رغم تأكيد عائلات الضحايا أن العدد الحقيقي أكبر بكثير. وحاول تشون، آنذاك، تصوير الاحتجاجات كتمرد مدعوم من كوريا الشمالية، لكنها تحولت إلى نقطة محورية في مسيرة البلاد نحو الديمقراطية.
واستمرت الأحكام العرفية حتى عام 1981، حين ألغيت إثر استفتاء شعبي. وفي صيف 1987، أجبرت احتجاجات شعبية حاشدة حكومة تشون على قبول الانتخابات الرئاسية المباشرة. فاز فيها حليفه العسكري روه تاي-وو، الذي شارك في انقلاب 1979، مستفيدا من انقسام أصوات المعارضة الليبرالية.
ولم تتحول كوريا الجنوبية إلى جمهورية ديمقراطية حقيقية إلا مع تنصيب روه في 25 شباط 1988، بعد 40 عاماً من الحكم العسكري.
وفي عام 1996، حوكم تشون دو-هوان وروه تاي-وو بتهم تتعلق بتنفيذ انقلاب 1979 وحملة القمع الدموية التي أعقبته. ورغم أن الرئيس كيم يونغ-سام (1993-1998) اعتبر هذه المحاكمات علامة على عصر دستوري جديد، إلا أنه منح الرجلين عفوا في العام الموالي، في خطوة قال إنها تهدف إلى توحيد البلاد.
ليلة عاصفة في سيول
وشهدت كوريا الجنوبية أزمة سياسية حادة، أمس الثلاثاء، حين فاجأ الرئيس سوك يول البلاد بإعلان الأحكام العرفية في خطاب تلفزيوني.
وشكل هذا القرار صدمة محلية وأثار قلقا دوليا، خاصة أنه يأتي في خضم خلافات وتوترات سياسية عميقة مع المعارضة التي تسيطر على البرلمان.
واندلعت الأزمة بعد رفض المعارضة لمقترح الميزانية الرئاسي للعام 2025، حيث قررت اللجنة النيابية تخفيض الميزانية بنحو 4.1 تريليون وون (ما يعادل 2.8 مليار دولار).
وطالت هذه التخفيضات جهات حكومية حساسة، شملت مكتب الرئيس والادعاء والشرطة ووكالة التدقيق الحكومية.
واعتبر الرئيس، وهو مدعٍ عام سابق، هذه الخطوة تهديداً لوظائف الدولة الأساسية، متهماً المعارضة بمحاولة "شل الحكم" وتحويل البلاد إلى "ملاذ آمن للمخدرات وحالة من الفوضى في السلامة العامة".
وبدأت ليلة الأزمة بإعلان يون المفاجئ للأحكام العرفية، تبعه نشر قوات أمنية وعسكرية حول البرلمان امنع النواب من دخول المبنى، لكن نحو 190 نائباً من أصل 300 تمكنوا من الوصول إليه وعقد جلسة طارئة صوتوا خلالها بالإجماع على رفض الأحكام العرفية.
ورغم هذا التصويت، أعلن الجيش أنه سيواصل تنفيذ الأحكام العرفية حتى يقرر الرئيس رفعها.
وشهدت العاصمة سيول ساعات من التوتر، حيث تجمع مئات المحتجين أمام البرلمان مرددين هتافات "أوقفوا يون سوك يول".
تزامنت هذه الأزمة مع تراجع حاد في شعبية الرئيس يون إلى 19 بالمئة، وفقاً لاستطلاع معهد غالوب. ويعكس هذا التراجع استياءً شعبياً من إدارته للاقتصاد، إضافة إلى جدل يحيط بزوجته كيم كيون هي.
وقد برر يون قراره بضرورة "حماية كوريا الجنوبية الليبرالية من التهديدات التي تمثلها القوات الشيوعية"، متهماً البرلمان بأنه أصبح "ملاذاً للمجرمين ووكراً للديكتاتورية التشريعية."
وانتهت الأزمة بعد ساعات حين رضخ يون لقرار البرلمان ورفع الأحكام العرفية، لكن تداعياتها السياسية استمرت مع مطالبات متصاعدة من المعارضة بتنحيه. (الحرة)