يبدو العالم بعد عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للبيت الأبيض، وكأنه يدخل مرحلة جديدة من التوترات والتحولات السياسية، حيث تعتمد سياساته على مبدأ "أميركا أولاً" الذي يشبه في طبيعته استراتيجية خصم في حلبة ملاكمة: لا مهادنة، ضربات قاسية، ثم تقديم صفقة يصعب رفضها. هذا الأسلوب المثير للجدل في السياسة الخارجية قد يترك آثارًا عميقة على العلاقات الدولية، ويُعيد تشكيل النظام العالمي.
فإلى أين سيأخذ ترامب العالم في ولايته الثانية؟
منذ وصوله إلى البيت الأبيض، ارتبط اسم ترامب بنهج غير تقليدي في السياسة الخارجية، حيث يعتمد على الضغط على خصومه وحلفائه ليُجبرهم على تقديم تنازلات كبيرة.
يقول المحلل السياسي موفق حرب في حديثه لسكاي نيوز عربية أن دونالد ترامب هو من يحصل على الصفقة التي يريدها ثم يوجه صفعة". هذا الأسلوب التفاوضي الذي يُصر ترامب على اتباعه يعتبره البعض مشابهًا لاستراتيجية رجال الأعمال في نيويورك، حيث يراهن دائمًا على الفوز بأكبر قدر ممكن من المكاسب، دون الاهتمام بالمشاعر أو العلاقات طويلة الأمد.
ويتجسد هذا الأسلوب في عدة ملفات دولية شائكة. ففي القضية الفلسطينية، على سبيل المثال، قدم ترامب خطة تهجير قسري لسكان غزة في إطار إعادة إعمار القطاع، وهو ما أثار موجة من الاستنكار على كافة الأصعدة.
ولم يكن الوضع أقل تعقيدًا في الحرب الأوكرانية، حيث اقترح ترامب على حلفائه الأوروبيين تقليص الدعم العسكري لأوكرانيا، بل وطلب منها التنازل عن بعض الأراضي لصالح روسيا، كما طرح أيضًا فكرة عدم انضمام كييف إلى حلف الناتو.
في قلب العاصفة.. ترامب وأوكرانيا
ليس فقط خصوم ترامب، بل حتى حلفاءه الأوروبيين وجدوا أنفسهم في مواجهة تحديات جديدة نتيجة سياساته الصارمة. يرى موفق حرب أن ترامب يريد إحراج أوروبا منذ اليوم الأول، وحتى من حملته الانتخابية، كان يقول أن الأوروبيين يستغلون الولايات المتحدة.
وفي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تأمل في دعم أميركي كامل في حرب أوكرانيا، وجد قادتها أنفسهم أمام ترامب الذي كان يصر على أن روسيا ليست خصمًا للولايات المتحدة، بل هي مشكلة أوروبية خالصة.
والأمر اللافت هنا هو كيف أن ترامب، برغم تحدياته الدبلوماسية مع الحلفاء الأوروبيين، لا يضحي بمصالح بلاده من أجل الحفاظ على التحالفات التقليدية. بل على العكس، يعتقد ترامب أن "الولايات المتحدة لا تحتاج إلى حلفاء لكي تظل القوة العظمى في العالم". هذا التوجه قد يغير من خريطة التحالفات الدولية ويضع الولايات المتحدة في منافسة مباشرة مع القوى الكبرى الأخرى مثل الصين وروسيا.
ملامح الانقلاب في السياسة الدولية
أما بالنسبة للنظام الدولي الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فيرى المحلل موفق حرب أن "ترامب لا يؤمن بالقوة الناعمة" التي كانت أحد أبرز أدوات الهيمنة الأميركية، بل يعتقد أن القوة العسكرية والاقتصادية هي السبيل الوحيد لتحقيق النفوذ العالمي في العصر الحديث.
يضيف حرب: "ترامب لا يعتقد أن القوة الناعمة يمكنها الحفاظ على مكانة الولايات المتحدة في العالم". وهذا الموقف يعكس تحولا في السياسة الأميركية التي كانت تعتمد لفترة طويلة على التعددية والدبلوماسية كأدوات رئيسية للحفاظ على النظام العالمي.
وفي الوقت الذي يسعى فيه ترامب إلى تقليص الانخراط العسكري الأمريكي في مناطق النزاع، تزداد الانقسامات داخل أوروبا، حيث بدأ قادتها يفكرون في كيفية تأمين مصالحهم العسكرية دون الاعتماد على الولايات المتحدة، ما يعكس تحولًا كبيرًا في التوازنات الجيوسياسية في أوروبا والعالم.
من النظام الليبرالي إلى القومية.. الدروس المستفادة
ما يعكسه أسلوب ترامب في السياسة الخارجية هو تراجع النظام الليبرالي الذي هيمن على العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. فترامب يضع مصالح الولايات المتحدة في مقدمة أولوياته، ويحث الدول الأخرى على اتباع نفس المنهج. "كل دولة اليوم تبحث عن مصلحتها أولاً، هذه هي السياسة التي يتبعها ترامب". وإذا استمر هذا الاتجاه، فقد نشهد إعادة تشكيل النظام الدولي بشكل أكثر قومية حيث تتنافس القوى الكبرى في سعي حثيث لتحقيق مصالحها الفردية.
كما يلاحظ حرب أن هناك من يعتقد أن "ترامب قد قام بانقلاب على الليبرالية العالمية، ليؤسس عهدًا جديدًا من السياسة التي تدور حول فكرة "أميركا أولًا". ولكن ما يميز ترامب عن سابقيه هو موقفه الحاسم تجاه القضايا العالمية، حيث يتجنب التحالفات الكبرى ويتجنب حتى تدخل القوات الأميركية في الصراعات العسكرية، مشيرًا إلى أن "السياسة الخارجية يجب أن تتطور بما يتناسب مع المصالح القومية".
عصر جديد في السياسة العالمية
ما يقوم به ترامب ليس مجرد سياسات مفاجئة أو حتى مشوشة، بل هو عبارة عن رؤية طويلة الأمد يعكسها كل قراره وأسلوبه في التعامل مع القضايا العالمية.
بفضل هذا النهج، أصبح العالم في عصر جديد من التحولات الجيوسياسية التي تضع مصالح الدول الكبرى في قلب التفاعلات الدولية.
لكن، يبقى السؤال الأبرز: هل سيستطيع ترامب الحفاظ على سيادة الولايات المتحدة في عالم يتجه نحو تعددية قطبية؟ أم أن سياساته ستؤدي إلى نهاية هيمنة أميركا على الساحة الدولية؟ ما يبدو واضحًا هو أن العالم في ظل قيادة ترامب سيتجه نحو عواقب غير مسبوقة، سواء في شكل علاقات دولية جديدة أو في التأثيرات على النظام العالمي القائم. (سكاي نيوز)