في زوايا الذاكرة المحروقة من اللجوء، تقف حورية محمد، شابة سورية تبلغ من العمر 22 عاما، شاهدة على حياة كاملة قضت نصفها تقريباً داخل مخيم الزعتري في الأردن.
ً
ومع سقوط نظام بشار الأسد، كان النازحون السوريون يأملون أن تبدأ مرحلة جديدة من
السلام وإعادة الإعمار، لكن الواقع أثبت أن نهاية الحرب لا تعني نهاية المعاناة، إذ أن
ملايين المهجّرين لا يستطيعون العودة، لا لأسباب أمنية فقط، بل لأن بيوتهم دمرت، وقراهم خربت، والمرافق
الأساسية معدومة، وذلك وفق ما قال تقريرٌ جديد لموقع "الحرة".
وحين وصلت إلى الزعتري شمالي الأردن، كانت لا تزال
طفلة، بالكاد تفهم معنى النزوح، لكن السنوات الطويلة داخل أسوار الخيام والكرفانات جعلتها تنضج قبل أوانها، وتحمل همومًا أكبر من عمرها.
"في البداية، لم يكن المخيم مهيئًا للحياة"، تروي حورية، بنبرة تعبّر عن مزيج من الألم والتأقلم، وتضيف: "ما كان في كهرباء ولا ماء، الحمامات والمطابخ مشتركة، وكان الوضع صعب جدًا، خصوصًا للأطفال والنساء.. سكنّا في خيام تحت الشمس والمطر، وكل شيء كان ينقصنا".
"مدينة نزوح"
تحوّلت الخيمة إلى منزل، والمخيم إلى مدينة، بل إلى ما يشبه الوطن البديل، رغم أنه لا يشبه الوطن أبدًا. ومع مرور الوقت، تحسنت بعض الخدمات، وتمّ استبدال الخيام بالكرفانات، وتوفرت الكهرباء والمياه تدريجيًا، لكن الذاكرة بقيت مثقلة بالبدايات القاسية. وتقول حورية: "الزعتري صار خامس أكبر مدينة بالأردن، بس الناس هون ما نسيوا بيوتهم، ما نسيوا حياتهم قبل الحرب".
ورغم سقوط النظام في 8 كانون الأول 2024، لم يكن ذلك كافياً لإقناع الناس بالعودة. البعض جرب العودة وندم، والبعض الآخر ما زال ينتظر أن تتحسن الأوضاع. هنا، تقول حورية: "الناس اللي رجعت على سوريا كلها ندمت. الوضع المعيشي هناك صادم، وما حدا عنده بيت يرجع عليه. كل شي مهدوم، وكل حدا ناطر يتحسن الوضع ليقرر يرجع".
لكن الغربة ليست وحدها العائق، فحتى الأمل أحيانًا يصبح رفاهية. في أحد الأمثلة المؤلمة، تروي حورية عن رجل ينحدر من بلدة إنخل بمحافظة درعا، قرر مغادرة الزعتري عبر البحر لعلاج ابنه المصاب بسرطان الدم، بعدما أصبحت الرعاية الصحية المجانية نادرة في المخيم.
ولم يصل ذلك الرجل إلى أوروبا، بل غرق في البحر قبالة سواحل ليبيا، تاركًا خلفه زوجة وأطفالًا ينتظرون عودته.
"هذا مثال على معاناة اللاجئين والنازحين "، تقول حورية، قبل أن تصمت لحظة، وكأنها تحاول منع دموعها من الانهمار. في حياتها، كما حياة مئات الآلاف من السوريين، تحوّل الانتظار إلى أسلوب حياة، والغربة إلى هوية مؤقتة لا أحد يعرف متى تنتهي.
من حصار الجوع إلى التيه في المخيمات
وفي يوم عادي من عام 2013، كان رياض محمد السوفاني (58 عاماً) يجلس مع عائلته في جنوب العاصمة دمشق، لا يدرك أن حياته ستتحول إلى كابوس طويل سيظل يعيشه لسنوات... قصف بالهاون، غارات جوية، قنص، وحصار خانق لحي التضامن حتى أصبح الخروج من المنزل بحثًا عن الطعام مهمة انتحارية.
"لم يكن لدينا سوى الماء والبهارات، وكنا نأكل أوراق الفجل التي لا تقترب منها حتى الحيوانات".. هذا ما قاله رياض وهو يسترجع واحدة من أقسى لحظات حياته.
وكانت الأوضاع في جنوب دمشق مأساوية إلى حد يفوق الوصف، لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك، فبينما كان رياض يحاول البقاء على قيد الحياة، كان الموت يحصد أحبّ الناس إليه.
"قتلت والدتي بقصف جيش النظام، ثم قتل ابني محمد، وعمره 23 عامًا، وبعدها فقدت ابني الآخر صلاح الدين، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، بسبب نقص الدواء"، يضيف رياض، بينما تتقطع كلماته بحزن لا يوصف.
ولم يكن القتل هو السلاح الوحيد الذي استخدمه النظام، بل كان الحصار والتجويع أكثر قسوة من القصف، خاصة عندما بدأ "الناس يموتون أمام أعينهم بسبب انعدام الطعام".
في النهاية، وبعد سنوات من الصمود تحت الحصار قرر النظام فتح معبر لخروج بعض العائلات من المنطقة، لكن الرحلة كانت محفوفة بالمخاطر، حيث تعرض الشباب للاعتقال، وكان ابن شقيق رياض من بين المعتقلين.
"عندما خرجت عائلتي من جنوب دمشق، بقيت أنا وحدي في الحصار، ثم جاء اتفاق التهجير إلى الشمال السوري عام 2018، وهو أصعب ما مررت به"، يقول رياض بصوت خافت، وكأن الذكرى ما زالت تنهش روحه.
كانت مغادرة المنزل أقسى من الموت نفسه، أن تترك المكان الذي ولدت فيه، وتذهب إلى مصير مجهول، حيث لا شيء مؤكد سوى أنك ستكون"لاجئًا في وطنك".
"معاناة لا تنتهي"
وصل رياض إلى الشمال السوري بعد رحلة تهجير
طويلة، ليدرك أن الحياة هناك لم تكن أقل قسوة من الحصار.
"تخيل أن يكون الحمام والمياه وكل شيء مشتركًا مع مئات الناس، تخيل أن تعيش في خيمة تحت رحمة الأمطار الشتوية والحر الشديد في الصيف، محاطًا بالحشرات والزواحف، وأن تعتمد على مساعدات لا تأتي إلا بين مد وجزر"، يروي رياض.
في السنوات التي تلت النزوح، حاول رياض البحث عن عمل، عن حياة كريمة، لكنه اصطدم بواقع اقتصادي قاسٍ، حيث لا وظائف، ولا فرص، ولا مستقبل واضح.
"تأقلمنا مع الوضع رغم صعوبته، انتظرنا يومًا تتحسن فيه الأمور، لكن كل شيء ظل كما هو"، يقول رياض، وكأنه يحاول إقناع نفسه بأن الصبر وحده كافٍ.
"حلم الموت الدافئ"
وفي إدلب، يعيش أحمد الحموي،(67 عاما) الذي اضطر للفرار من ريف محافظة حماة عام 2014 بعد تصاعد القصف والاشتباكات في منطقته، حيث وجد نفسه في مدينة غريبة عنه، لكنها كانت الخيار الوحيد له ولعائلته للبقاء على قيد الحياة.
"لم يكن لدينا وقت لجمع أي شيء، خرجنا من المنزل ونحن بالكاد نحمل أطفالنا"، يقول أحمد، الذي كان يعمل مدرسًا للغة العربية قبل أن تسرقه الحرب من فصوله وطلابه.
يعيش أحمد اليوم في بيت صغير في إدلب، بعيدًا عن مسقط رأسه، لكنه لا يزال يشعر بأنه "غريب داخل وطنه"، حيث فقد معظم أصدقائه، فيما لا يزال بعض أفراد عائلته مفقودين.
ويحلم الحموي بالعودة إلى مسقط رأسه، مضيفا: "أريد أن أموت في بيتي الذي بات أنقاضا بعدما كانت جدرانه تشهد على طفولتي وشبابي وكهولتي، لكن حتى الموت لم يعد بهذه السهولة"، يضيف أحمد بصوت مبحوح. (الحرة)