في ذكرى أحداث 11 أيلول، نشرت صحيفة "إندبندنت" مختصراً من كتاب روبرت فيسك: "الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة". ويذكر فيسك كيف تلقى اتصالاً هاتفياً في مكتبه في بيروت من شخص يقول له: "سيد روبرت، يريد صديق قابلته في السودان أن يراك"، فاقترح فيسك اسماً، فقال له المتصل: "لا، لا سيد روبرت، أقصد الشخص الذي قابلته، هل تفهمني"؟ فأجابه فيسك بأنّه فهم، وسأله كيف يمكن الوصول إليه، فأجابه المتصل: "إذهب إلى جلال أباد، وسيتمّ الإتصال بك".
ويروي فيسك في كتابه كيف أنّه ذهب بعد شهر إلى جلال أباد، وكيف أيقظه شخص بالضرب على نافذة غرفته بمفتاح سيارة، في الوقت الذي كان فيه في فندق سبنغهار، وقال له: "سيد روبرت تعال إلى الأسفل، فهناك شخص يريد أن يراك". ويقول أدركت حينها أنّ الرجل تسلّق سلّم الطوارئ القديم ليصل إلى نافذتي. ويقول إنه ارتدى ملابسه وأخذ معطفاً، وقال إنّه كان لديه شعور بأنّهم سيسافرون في الليل، ويقول: "كدت أن أنسى كاميرتي القديمة". ويروي كيف مشى بهدوء من أمام مكتب استقبال الفندق خارجاً إلى حرارة الظهيرة.
ويقول الكاتب إنّ الرجل الذي كان ينتظره عربي، يلبس لباساً أفغانياً، وصافحه ممسكاً يده اليمنى بيديه الإثنتين. وقال إنّ اسمه محمد، وهو دليلي، وعندما سأله فيسك: "لرؤية الشيخ"؟ ابتسم ولم يقل شيئاً.
ويصف فيسك كيف أنّه مشى خلفه في شارع جلال أباد الرئيسي، حتى وصلا إلى شاحنة في قاعدة عسكرية سوفييتية مهدّمة، وفيها مجموعة من المسلحين. وكان المسلحون الثلاثة في الشاحنة من الخلف، وعندما جلس فيسك في السيارة، قال له السائق: "سيد روبرت هؤلاء هم حراسنا"... وسارت السيارة تحت حرارة الشمس الحارقة في إقليم نانجرهار.
ويشبّه الكاتب الرحلة على الطرق المحفرة والطرق الترابية، التي مرّوا فيها عن قرى طينية ووديان، بأنّها رحلة على القمر. ويقول فيسك إنّهم وصلوا مع الغروب إلى قرى طينية مكتظة، حيث كان الرجال يشعلون الفحم، والنساء المبرقعات في أزقة القرى، ورأوا المزيد من المسلّحين، وكان قد دخل الليل قبل أن تتوقف سيارتهم في بستان، حيث كانت هناك مقاعد خشبية مغطاة ببطانيات عسكرية، وخرج من الظلام مسلّحون هم "المجاهدون" العرب الذين شجبهم رؤساء وملوك نصف العالم العربي وأميركا، والذين أصبحوا يعرفون بعد ذلك بتنظيم "القاعدة".
ويذكر فيسك أنّ المرشد محمد أشار له إلى أنّ يتبعه ومشياً في الظلام بجانب نهر، ثمّ قفزا فوق جدول، ثم بدا لهما ضوء من مصباح نفطي، وكان بجانبه رجل ملتح طويل يلبس الثوب السعودي، ووقف أسامة بن لادن وكان بجانبيه ابناه عمر وسعد، ورحب قائلاً: "أهلا بك في أفغانستان".
ويقول الكاتب إن عمر بن لادن كان عمره 40 عاماً حينها، وقال إنّه كان يبدو أكبر مما بدا عندما قابله في السودان أواخر العام 1993. وقال إنّه سأله عن صحته، وقال له إنّه سافر مسافة طويلة لهذا اللقاء، فأجاب بن لادن بأنّه كذلك سافر مسافة طويلة، وقال إنّه لاحظ انفصالاً لم يلاحظه عليه من قبل.
ويشير فيسك إلى أنّه "قبل ذلك اللقاء بعشرة أيّام كانت شاحنة انفجرت في سكن قاعدة جوية أميركية في الخبر في السعودية، وكنّا نتحدث في ظلّ وفاة 19 جندياً أميركياً هناك، وقال بن لادن: منذ فترة ليست بعيدة نصحت أميركا بأن تسحب قواتها من السعودية، والآن لنقدم بعض النصح للحكومة البريطانية والفرنسية بأن تسحبا قواتهما؛ لأنّ ما حدث في الرياض وفي الخبر يدل على أنّ من قام بتلك الهجمات يعرف جيداً كيف يختار الهدف، فضربوا عدوهم الرئيسي، الأميركيين، ولم يقتلوا أيّ أعداء ثانويين.. قدّم هذا النصح للحكومة في بريطانيا... وأضاف بن لادن بأنّ الشرور في الشرق الأوسط نشأت من محاولات أميركا السيطرة على المنطقة ومن دعمها لإسرائيل.
ويلفت الكاتب إلى أنّ "بن لادن كان يتحدث ببطء وبدقة، وكان هناك مصري يكتب في دفتر كبير بجانب مصباح، كما كان يفعل الكتبة في العصور الوسطى، وقال بن لادن: هذا لا يعني إعلان الحرب على الغرب أو الغربيين، لكن ضد النظام الأميركي الذي هو ضدّ كلّ أميركي".
ويقول فيسك إنّه قاطع بن لادن، قائلاً إنّه على غير ما هو حال الأنظمة العربية، فإنّ الشعب الأميركي انتخب حكومته، وسيقول إنّ الحكومة تمثله. ويعلّق الكاتب قائلاً إن "بن لادن أهمل تعليقه أو يأمل أنّه أهمله؛ لأنّه في السنوات اللاحقة تسببت حربه بمقتل آلاف الأميركيين. واستمر بن لادن في حديثه قائلاً إنّ انفجار الخبر لم يأتِ بنتيجة مباشرة للإحتلال الأميركي.. لكن نتيجة للتصرفات الأميركية ضد المسلمين، ودعمهم لليهود في فلسطين وللمذابح ضدّ المسلمين في فلسطين ولبنان، صبرا وشاتيلا وقانا".
ويستدرك فيسك قائلاً إنّ ما أراد بن لادن أن يتحدث عنه في الواقع هو السعودية، حيث أخبره بأنّ الوضع في السعودية تغيّر للأسوأ منذ التقى به في السودان، وأن العلماء أعلنوا في المساجد أن وجود القوات الأميركية غير مقبول. وينوه فيسك إلى أن "بن لادن كان يصمت أحيانا دقيقة كاملة ليفكر في الكلمات التي يقولها، مع أنّ معظم العرب عندما يواجهون سؤالاً من مراسل يقولون أول شيء يخطر في بالهم؛ خشية أن يظهروا بمظهر الجهال إن لم يفعلوا ذلك، لكن بن لادن كان مختلفاً، لقد كان يثير القلق؛ لأنه يمتلك تلك الخاصية التي تقود الرجال للحرب: القناعة الذاتية الكاملة".
ويقول الكاتب إنّ "بن لادن سألني سؤالاً - يعد روتينياً بالنسبة لأي فلسطيني عاش تحت الاحتلال- وهو إن لم تكن أوروبا قاومت الإحتلال في الحرب العالمية الثانية"، فأجابه فيسك بأنّ الأوروبيين لا يقبلون هذه المقارنة؛ لأنّ النازيين قتلوا الملايين، في الوقت الذي لم يقتل فيه الأميركيون سعوديا واحدا، فأجابه بن لادن: "نحن كوننا مسلمين تربطنا علاقات قوية.. نحن نشعر مع إخواننا في فلسطين وفي لبنان .. فعندما قتل 60 يهودياً في فلسطين اجتمعت دول العالم خلال سبعة أيام لشجب هذا الفعل، في الوقت الذي لم يقابل مقتل 600 ألف طفل عراقي رد الفعل ذاته.. إن قتل هؤلاء الأطفال العراقيين هو حرب صليبية".
ويقول فيسك إنّه قال لبن لادن بأن أفغانستان كانت البلد الوحيد الباقي له بعد إبعاده من السودان، فأجابه بأنه أكثر البلاد أمناً له، فكرر فيسك أنها كانت البلد الوحيد، فضحك بن لادن وعدد من المقاتلين العرب، قائلين إنّ هناك أماكن أخرى، حيث لهم أصدقاء وأخوة يمكن أن يوفّروا لهم مكاناً آمناً. وعندما نبهه فيسك بأنّه رجل مطارد، قال له بن لادن: "الخطر جزء من حياتنا".