برزت معالم حرب باردة جديدة، تمثّل وجهها بفنزويلا أمس الأربعاء، فما حصل لم يجرِ بين ليلة وضحاها، ولعلّ أبرز ما دفع الولايات المتحدة بأن تسرّع من الأحداث هو ما نُشر في كانون الاول الماضي، عن نية لدى روسيا بتأسيس وجود عسكري طويل الأمد لها في أميركيا اللاتينية عبر إنشاء قاعدة جوية في فنزويلا، وبذلك كادَ يتحقّق ما قيل في السنوات الأخيرة عن أنّ الحديقة الخلفية للولايات المتحدة أي أميركا اللاتينية لم تعد لها.
يبدو أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يواجه النفوذ الصيني المتصاعد لا سيما على الصعيدين الإقتصادي والتكنولوجي، والنفوذ الروسي في الشرق الأوسط، أعاد ترتيب بطاقاته في القارة الجنوبية، وبالفعل فقد جاء الى السلطة رئيس البرازيل الجديد جايير بولسونارو المنتمي لأقصى اليمين، والذي يعتبر ترامب مثله الأعلى، وما إن قدم حتّى أعلن عن نيته بنقل سفارة بلاده في إسرائيل إلى القدس، ليأتي بعدها دور زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للبرازيل في نهاية العام 2018، وكذلك فقد فاز اليميني ماريو بينيتيز برئاسة الباراغواي، وهو يتماشى مع سياسات ترامب.
إذًا يلملم ترامب الخارطة الأميركيّة وقرّر توجيه ضربة لما يزعم أنّها أنشطة ماليّة وتجاريّة لـ"حزب الله" عند المثلث الحدودي، بين البرازيل والباراغواي والأرجنتين، واللافت أنّه قبل أيام قليلة، زعم النائب المعارض للرئيس الفنزويلي، أميركو دي غرازيا، في تقرير بصحيفة أميركية بالإسبانية "دياريو دي لاس أميركاس"، إشراف مجموعات من "حزب الله" على مناجم ذهب في فنزويلا لتمويل أعمالها حول العالم، بدعم ومباركة من السلطات الرسمية. وأشار المعارض الفنزويلي، إلى أن "تعاون حكومة مادورو مع حزب الله يعود بالنفع على الطرفين".
ماذا جرى في فنزويلا؟
في الوقت الذي تتسارع الأحداث السياسيّة في العالم الذي يشهد تطورات عدّة، فقد أعلن المعارض الفنزويلي خوان جويدو نفسه رئيسًا مؤقتًا للبلاد أمام الآلاف من أنصاره، وبعد وقت قصير دعمته الولايات المتحدة الأميركية وتبعتها عدد من الدول اللاتينية، ووصفته واشنطن بالشجاع.
وشهدت شوارع العاصمة كاراكاس مظاهرات حاشدة مؤيدة وأخرى معارضة للرئيس الحالي نيكولاس مادورو، في وقت اعتبرت واشنطن فيه جويدو "حامل شعلة الديمقراطية" في الدولة الواقعة في أميركا الجنوبية.
وإثر إعلان غوايدو نفسه "رئيساً بالوكالة" سجلت مواجهات بين قوات الأمن وأنصار المعارضة في كراكاس، حيث تجمع المعارضون الذين ارتدى عدد كبير منهم ملابس بيضاء في عدة أحياء في العاصمة وأجزاء أخرى من البلاد للمطالبة بـ"حكومة انتقالية" وانتخابات جديدة. كما تجمع أنصار الحكومة، ومعظمهم يرتدي ملابس حمراء، في أجزاء أخرى من العاصمة لدعم رئيس الدولة ورفض مطالب المعارضة.
وردّت فنزويلا على الولايات المتحدة بإعلان قطع العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن، ومنحت بعثتها الدبلوماسية 48 ساعة لمغادرة البلاد.
من مع ومن ضد؟
أيدت كندا ومعها البرازيل والباراغواي وفرنسا وكولومبيا والبيرو والأرجنتين التحرك المعارض داخل فنزويلا، كما وجّهت واشنطن عبر وزير خارجيتها مايك بومبيو رسالة إلى الجيش في فنزويلا وطالبته بدعم ما اعتبرته الديمقراطية والشرعية، في إشارة إلى "جويدو". وقال بومبيو في بيان نشرته الخارجية الأميركية: "نكرر دعوتنا للقوات العسكرية الفنزويلية وقوات الأمن لدعم الديمقراطية وحماية جميع المواطنين الفنزويليين".
وأوروبيًا، دعا الاتحاد الأوروبي إلى الإنصات "لصوت" الشعب الفنزويلي وطالب بانتخابات "حرة"، في حين كانت تصريحات رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، أكثر وضوحا بشأن دعم غوايدو، وذلك عندما طالب أوروبا بأن تتحد في دعم القوى الديمقراطية في فنزويلا.
في المقابل، أعلنت المكسيك وبوليفيا تمسكها بالرئيس نيكولاس مادورو باعتباره الحاكم الشرعي لفنزويلا.
من جانبه، أعرب وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عن استغرابه لإعلان رئيس البرلمان الفنزويلي خوان جوايدو، نفسه رئيسا للبلاد، في ظل وجود رئيس منتخب. وعن اتصال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنظيره الفنزويلي نيكولاس مادورو، قال جاويش أوغلو: "الرئيس أردوغان اتصل أمس بنظيره الفنزويلي وتلقى منه معلومات عن آخر المستجدات في بلاده، وأكد له دعم تركيا القوي للديمقراطية، وأعرب عن أمله في أن تتمكن فنزويلا من تجاوز هذه المرحلة العصيبة، وتستطيع إحلال الأمن والاستقرار في الداخل".
وانضمّت روسيا إلى نادي داعمي مادورو، إذ صرّح رئيس لجنة الشؤون الدولية بمجلس الاتحاد الروسي قسطنطين كوساتشوف بأن الولايات المتحدة تتدخل بشكل سافر في الشؤون الداخلية لفنزويلا. وأضاف في حديث لوكالة "نوفوستي": "مهما حدث في فنزويلا، فإنّ ذلك يعتبر شأنًا داخليًا لهذه الدولة. ويجب دعم الشعب الفنزويلي من خلال تطوير التعاون مع هذا البلد والمساعدة على حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة فيها، وليس من خلال حصارها".
كذلك فقد أعربت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشون يينغ رفض بلادها لأي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية لفنزويلا، مؤكدة دعمها لجهود حكومة البلاد للحفاظ على الاستقرار، وسيادة البلاد واستقلالها.
كما أعربت كوبا عن "دعمها الحازم" للرئيس الفنزويلي في "مواجهة المحاولات الإمبريالية لتشويه سمعة الثورة البوليفارية وزعزعة استقرارها".
العين على الشرق الأوسط!
وستؤثر الأحداث المتسارعة حتماً على أكبر حلفاء مادورو في الخارج، خاصةً في الشرق الأوسط، بدايةً من إيران، الحليف الاستراتيجي لفنزويلا، إذ يرتبط البلدان بعلاقات اقتصادية وسياسية وثيقة، خاصةً منذ عهد الرئيسين السابقين الفنزويلي هوغو تشافيز والإيراني أحمدي نجاد.
وارتبطت طهران وكاراكاس بعلاقات قوية من مبدأ "مواجهة الغرب"، وعلى رأسه الولايات المتحدة.
ولم تقف هذه العلاقات عند حد التعاون التجاري، والنفطي، والاقتصادي، من استثمارات بمليارات الدولارات موزعة بين إنشاءات سكنية، وبنوك، ومصانع إنتاج سيارات، أو حتى التعاون السياسي، بل امتدت لتشمل خاصةً الأنشطة العسكرية، والاستخباراتية، وهو الأمر الذي دفع الاستخبارات الأميركية، إلى اتهام حكومة فنزويلا، بتسهيل الحضور الإيراني في أميركا اللاتينية، عبر شركات تجارية وظفها الإيرانيون للانطلاق نحو دول المنطقة.
ولدعم حضورها في المنطقة استثمرت إيران في فنزويلا عبر شركاتها "إيران خودرو" لتصنيع السيارات، وشركة نفط "بتروفارس"، وغيرها من الشركات في مجال إنتاج الإسمنت، ومصانع للبتروكيماويات، وغيرها وضخت فيها مليارات الدولارات في فنزويلا. وإضافة إلى ذلك، أظهرت تقارير مسربة، أن الكثير من الإيرانيين التقنيين في هيئات مرتبطة بالمناجم والجيولوجيا في فنزويلا، والتي بدورها تجري دراسات بمساعدة إيران، لتخصيب اليورانيوم واستخدامه في الأسلحة النووية، التي تطورها طهران.
ورغم العقوبات الأميركية على كل من إيران وفنزويلا منذ سنوات، والتي أدت إلى أزمة اقتصادية وانهيار اعتبره البعض "كارثياً" استمر البلدان في تعزيز تعاونهما، ليس دائماً لأهداف اقتصادية بحتةً، لكن على أساس الاشتراك في العداء للولايات المتحدة، التي تنظر بانزعاج للحضور الإيراني في حديقتها الخلفية بالقارة الأميركية.