كتبت نوال تصر في "نداء الوطن":
صباح يوم الأحد، في الثالث والعشرين من تشرين، لم يكن يدري رامز مخول، الرجل الثمانيني الذي جرفته السيول في زوق مصبح، ان نهايته قد أصبحت وشيكة. زار بيت ابنه البكر إميل وتناول الطبق الذي يحب: كفتة مشوية، نظر مراراً في اتجاه الوادي المحاذي، طلب شوكولا، وحين وصل ابنه روبير ليعيده الى المنزل نظر في عيون إميل وروبير وقال لهما: «خليكم يا بيي مجموعين». هي كانت آخر دقائق قبل أن تبتلعه السيول.
نهار الأحد
يوم الأحد بدأ مشمساً والناس، المثقلون بالأزمات، انطلقوا في «فسحة» في اتجاه ما. رامز مخول وزوجته لولو يعيشان في منزلي ولديهما روبير وإميل، رامز لدى روبير ولولو لدى إميل. هكذا اتفقّ الأشقاء والشقيقات الستة: إميل وروبير ونبيل وهدى وإنعام وأمال منذ قرروا أن ينزل رامز ولولو من بلدتهما ضهر الليسينه في عكار ليسكنوا، بين أولادهما، في ذوق مصبح . والليسينه - لمن لا يعرف - تقع قرب بينو.
ومثل ثلاثة أرباع أولاد عكار دخل رامز الجيش وتقاعد منذ أكثر من عشرين عاماً. وصحته، على عكس كل ما أشيع في اليومين الماضيين، «عال العال»، باستثناء بداية باركنسون. هو ليس مقعداً. ويوم الأحد صعد أربع طبقات مشياً ونزل أربع طبقات وتمهل عند كل طبقة، حيث تنتشر صور القديسين في الأرجاء. صلى ورسم شارة الصليب مراراً. وكان فرحاً جداً حين اتكأ على كرسي الى جانب زوجته لولو. وقبل أن يغادر منزل إميل، الواقع على تلة الكوز في ذوق مصبح، طبع قبلة على خدّ زوجته ووعدها أن يعود. طلب منه إميل وزوجته نزهه أن يبقى، غير أنه صار ينظر الى الساعة ويقول لروبير الذي وصل للتوّ: يلا يا بيي قبل العتمة. إستجاب روبير وزوجته لإلحاح رامز وغادرا برفقته. ولم يكن معهما أي طفل (كما أشيع) فروبير عريس جديد ولا أولاد لديه.
كانت السيول أقوى
لم تكن السماء قد بدأت رمي خيراتها. ثوان قليلة وفاضت الأرض. وديان وطرق متعرجة وحفر وظلام شديد. ركن روبير سيارته، وهي صينية صغيرة من نوع JAC حمراء اللون، جانباً ومسح الزجاج. وما إن عاد وصعد الى السيارة، على مسافة أمتار قليلة من منزل شقيقه، حتى ما عاد يرى شيئاً وأصبحت الأمطار سيولاً، حملت السيارة ورمتها في مستنقع على يمين الطريق، قبالة معمل البلاط، وراحت «تدفش» السيارة في اتجاه الوادي. خرج روبير من النافذة. قفزت زوجته. وسارع الى مساعدة والده الجالس في المقعد الخلفي. غمره بين ذراعيه وحاول ان يسبح به لكنه راح يصرخ: قدمي عالقة قدمي عالقة... وكانت السيول أقوى منهم جميعا فجرفت رامز مخول.
السيارة لا تزال في المكان. رفعت من القناة التي سقطت فيها لكنها مركونة الى جانب الطريق. زجاجها الأمامي مشظى بالكامل وحالتها حالة. ومسبحة لا تزال عالقة على المرآة الأمامية. ورائحة التراب تفوح في كل مكان. إنها رائحة بدايات الشتاء.
الدفاع المدني على الأرض
خمس عشرة ساعة ظلّ رامز مفقوداً. ومسؤول في الدفاع المدني يحاول أن يشرح تصوره لرحلته في خضمّ لطمات السيول: «في تلك الليلة كان كل شباب الدفاع المدني على الطرقات، يساعدون العالقين في كل مكان، بين ضبيه والذوق وجونيه. كلهم كانوا «برّا» يصارعون السيول على طول الأوتوستراد. تسع آليات كانت تنتشر. ولحظة تلقوا الإتصال عن مفقود سارعوا الى المكان مع الصليب الأحمر وفرق الإنقاذ في الجيش اللبناني. المكان الذي فقد فيه رامز يسمى «الزوقين»، كونه واقعاً بين زوق مكايل وزوق مصبح. لا نهر في المكان لكن المياه الهاطلة يغزارة والسيول فتحت نهراً نحو الوادي، الذي لا يزيد عمقه عن عشرة أمتار، لكن سرعة المياه وغزارتها راحت ترمي كل ما فيها نحو البعيد. عناصر الدفاع المدني لم يغادروا الأرض واستمرّت جميع الفرق تبحث عن المفقود طوال الليل حيث لا بصيص نور حتى ضوء القمر. لحقنا مجرى المياه حيث يوجد كثير من العلّيق والشجر».
إستمرّ البحث كمن يبحث عن إبرة في كومة قش. نزلت فرق من الدفاع المدني الى أسفل الوادي واستمرت فرق أخرى تبحث في الجهة العلوية. حصل تبديل بين الفرق واستمرّ البحث. ونحو الساعة التاسعة والنصف من صباح يوم الإثنين، أي صباح البارحة، وصل تسجيل صوتي يقول: «وجدنا الرجل المفقود». وجدوه على بعد 500 متر من مكان وقوع السيارة. جرفته الأمطار بعيداً جداً.
في منزل إبن رامز إميل تجلس بنات الفقيد. أما زوجته لولو، المرأة المسنة، فلم تعرف ما حصل لزوجها. لم يخبروها بذلك لأنها لن تتحمل هكذا خبر. نراها تنظر إلينا بذهول وكأنها تحاول أن تلتقط إشارات مما يدور حولها. التصوير ممنوع. وممنوع نشر صورة للفقيد. هذه هي تعليمات أهل البيت. واليوم سيدفن رامز مخول، المتقاعد في الجيش، في بلدته العكارية. الجيش اللبناني يقوم بكل الإجراءات وأولاده ينهون كل التفاصيل. وكلام كثير بين من شاهدوه عند انتشاله يشي بحجم المأساة: كان مشوها جداً، رأسه محطماً ورجلاه وقدماه أيضاً. وكان في «ظلط ربه» عارياً. السيول قست عليه كثيراً. وكل الأمل أن يكون قد مات على الفور.