رغم النجاح "النوعي" الذي حققته شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي بكشف ملابسات جريمة خطف وقتل الشيخ أحمد الرفاعي، بعد الكثير من التكهّنات التي كادت ترمي البلاد في أتون الفتنة، على خلفية "تسييس" القضية قبل اتضاح حيثيّاتها، فإنّ القصّة لم تنتهِ فصولاً على ما يبدو، في ظلّ الجدل المثار على مواقع التواصل الاجتماعي حولها، وتفاوت التفسيرات، وربما التأويلات، حول الجذور والخلفيّات الحقيقية.
وفيما أعلن "حزب الله"، في خطوة لافتة ومعبّرة، عن تقدّمه بإخبار إلى النيابة العامة التمييزية ضدّ العديد من الناشطين والصحافيين، ممّن اتهمهم باستغلال القضية لبث الفتنة وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية ونشر الفرقة بين الناس وصولاً لخلق التوترات، فإنّ الجوّ "المتشنّج والمتوتر" بقي مهيمنًا على وسائل التواصل، مع استمرار الاتهامات السياسية بتصدّر المشهد، حتى مع كشف جلاء التحقيقات وكشف ملابسات الجريمة.
وبين هذا وذاك، انقسم المؤيدون والمعارضون لـ"حزب الله" بين من يصرّ على توجيه الاتهامات، من دون سَنَد، ومن يريد في المقابل "إسكات أبواق الفتنة"، وفق التوصيف الذي تمّ تداوله، لتقرع القضية على حساسيّتها وبشاعتها، "جرس الإنذار" على صعيد مسألة في غاية الخطورة، تكمن في "الاستثمار السياسي"، ما يفتح الباب أمام العديد من علامات الاستفهام، فهل يأخذ اللبنانيون العبرة؟ وقبل ذلك، من ينفخ بنار "الفتنة"؟!
من ينفخ بـ"نار الفتنة"؟
على خطوة الجريمة التي ارتُكِبت بحق الشيخ أحمد الرفاعي، كانت "الجريمة" بحقّ الوطن ككلّ، من خلال الاستغلال السياسي الذي سارع كثيرون إليه، عبر توجيه الاتهامات قبل نضوج المعطيات، وهي اتهامات شملت أجهزة أمنية اعتُبِرت "متقاعسة"، ولكن قبل ذلك أحزابًا سياسيّة، مع التصويب الممنهج على "حزب الله" و"سرايا المقاومة" التابعة له، استنادًا إلى مواقف الشيخ أحمد الرفاعي "الواضحة والمعروفة"، وفق ما قيل.
ولعلّ "خطورة الأمر" تكمن هنا، فاتهام "حزب الله" تحديدًا بالوقوف خلف اختطاف وقتل الشيخ الرفاعي، مع عدم مراعاة الأبعاد "المذهبية" للموضوع، كان من شأنه إدخال البلاد والعباد في أتون "الفتنة"، بكلّ ما للكلمة من معنى، علمًا أنّ الأجواء على الأرض نهاية الأسبوع الماضي أوحت بذلك، قبل تكشّف ملابسات القضية بالكامل، حيث كان هناك من يلوّح بالتحرك، بعد تجاوز "الخطوط الحمراء"، والمسّ بـ"المشايخ".
وبمُعزَلٍ عن الأسباب والدوافع الحقيقية للجريمة، والتي عزاها المتابعون إلى خلافات عائلية قديمة، كان الشيخ الرفاعي قد أشار إليها مرارًا، فإنّ ثمّة أسئلة كثيرة طرحتها "الحملة" التي أحاطت بالقضية، فهل كان القائمون عليها يدركون التداعيات التي كان يمكن أن يفضي إليها جو التشنج والتوتر الذي سعوا لتكريسه؟ وألم يكن الأوْلى انتظار انتهاء التحقيقات، أو بالحدّ الأدنى، اكتشاف "مصير" الشيخ الذي كان لا يزال مختفيًا؟!
قضية لا تشكّل "سابقة"
لكن، أبعد من "الفتنة" التي كادت هذه القضية تُحدِثها، لولا المعالجة الواعية والحكيمة من المسؤولين والمعنيين، فإنّ الأكيد أنّها لم تشكّل "سابقة" في سجلّ "الاستثمار والتسييس" الذي تزخر به الروزنامة اللبنانية، فالاتهامات السياسية أضحت "القاعدة" في بلد، يقول البعض إنّ تركيبته السياسية والقضائية بمثابة "جسم لبّيس"، خصوصًا أنّ الكثير من الجرائم تصبح بحكم "المنسيّة"، رغم أنّ ملفاتها "مفتوحة" أمام القضاء.
ويلفت البعض في هذا الإطار إلى الاتهامات "السياسية" التي توجَّه لـ"حزب الله" مع كلّ جريمة تطال أحد معارضيه، من دون انتظار جلاء التحقيقات، ولو أنّ البعض يعتبر ذلك أمرًا مشروعًا، في ضوء بقاء الكثير من هذه الجرائم "غامضة"، ومنها على سبيل المثال جريمة قتل الناشط لقمان سليم، وقبله معظم الجرائم التي هزّت البلد بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، من دون الكشف عن المحرّضين والجناة.
لكنّ المفارقة وفق ما يرى بعض المتابعين، تكمن في أنّ مؤيدي "حزب الله"، في المقابل، يتبنّون المقاربة نفسها في الكثير من الملفات، كما حصل مثلاً قبل فترة مع مقتل رئيس حركة "قاوم" الشاب إيلي لحود، المعروف بمواقفه المناصرة للحزب، حيث لم يتردّد جمهور الأخير في اتهام رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع بالوقوف خلف الجريمة، رغم أنّ المعطيات الأولية رجّحت فرضية "الانتحار"، وربطتها بأسباب "مالية".
قد تكون جريمة اختطاف وقتل الشيخ أحمد الرفاعي، على بشاعتها، مثالاً آخر على خطورة التحريض والاتهام السياسي غير المبنيّ على وقائع، في ظلّ "استغلال" قد يتجاوز الأهداف "الآنية" التي يتقصّدها البعض، ليضع البلاد برمّتها على كفّ عفريت. لكنّ الأكيد أنّ كلّ الأطراف "شريكة" أيضًا في هذه الممارسات، ما يجعلها معنيّة بـ"جرس الإنذار" الذي يُقرَع، فمتى تنتهي هذه الدوامة، ويكون الاحتكام لدولة القانون والمؤسسات؟!