احتلّت منصّة "صيرفة" صدارة المصطلحات التي دخلت بفعل الأزمة القاموس اللبناني من بابه النقدي المتصدّع، ورافقت يوميات اللبنانيين، لا بل قادتهم خلفها في طوابير طويلة أمام أبواب المصارف، للإفادة من الفارق بين دولارها ودولار السوق الموازية، فأحالتهم مضاربين على العملة الوطنية بفرمان من الحاكم نفسه المؤتمن على العملة. قد يبدو المشهد سورياليا بعض الشيء، أمامه انقسمت الآراء بين من صفّق لابتكار الحاكم رياض سلامة، لجهة استخدام صيرفة والتعميم 161 للحفاظ على تماسك نسبي للقدرة الشرائية، خصوصًا لموظفي لقطاع العام بعد انهيار رواتبهم، وضبط الدولار ما دون المئة، وبين من رأى فيها هندسة فاشلة تسببت بخسائر إضافيّة لدى مصرف لبنان، وأنّها امتداد للدعم غير المجدي.
مؤخرًا بالتزامن مع استحقاق حاكمية المركزي، عاد مصطلح "صيرفة" إلى التداول على أوسع نطاق، مع إعلان نواب الحاكم الاستغناء عن المنصّة بعد انتهاء ولاية سلامة نهاية تموز الجاري. هنا اختلطت علينا الأمور، نحن الشعب البائس، لم نعد ندرك ما إذا كان ذلك مدعاة لفرح عظيم أو خوف أعظم من تبعات إيقافها على بورصة الدولار المتحكّم بعيشنا. ساهم في ارتفاع منسوب قلقنا نواب الحاكم أنفسهم، الملوحون بالإستقالة، والمتهيّبون من مسؤولية قيادة المركزي بعد حقبة أكبر المعمّرين داخله، في زمن الانهيار.
"إلغاء منصّة صيرفه أفضل من بقائها، لأنه سيشكّل مدخلًا باتجاه تحرير سعر الصرف بالكامل" يقول لـ "لبنان 24" رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية الدكتور منير راشد، الاستاذ المحاضر في الجامعة الاميركية في بيروت والخبير الاقتصادي السابق في صندوق النقد الدولي، طالب منذ بداية الأزمة ولا يزال بتحريرٍ كاملٍ لسعر الصرف. تخوّف الناس من ارتفاع سعر صرف الدولار بعد إيقاف صيرفة لا يجاريه راشد، بل على العكس من ذلك يؤكّد أنّ التحرير سيحسّن وضع الدولار، الذي شهد ارتفاعات بسبب طباعة الليرة لتمويل رواتب القطاع العام "كما أنّ صيرفة لم تتمكن منذ إنشائها قبل سنتين في أيار 2021 من لجم ارتفاع الدولار، بل كبّدت مصرف لبنان خسائر بالعملات الصعبة من الاحتياطي "معتبرًا أنّ الإبقاء عليها في المدى الأبعد سيؤدي إلى انخفاض سعر الليرة اكثر.
وقد وصفها البنك الدولي بأنّها أداة نقدية غير مؤاتية أدّت إلى ارتفاعات قصيرة الأجل في سعر صرف الليرة على حساب الاحتياطي والوضع المالي لمصرف لبنان. وعن قدرة صيرفة على ضبط الدولار ما دون 100,000 منذ أربعة اشهر، بعد أن تجاوز في منتصف آذار عتبة الـ 145,000، لفت راشد أنّ ذلك حصل بفعل استخدام مصرف لبنان الإحتياطي الموجود، أي ما تبقى من الودائع للتدخل في سوق القطع "لأنّ سلامة أراد قبل الرحيل أن يُثبت قدرته على ضبط السوق، لكنّه في الواقع غير قادر على ذلك، لأنّ السيطرة المؤقتة التي شهدناها ليست سيطرة على سعر الصرف".
تحدث نواب الحاكم عن منصّة بديلة للصيرفة هم بصدد إنشائها، في السياق رأى راشد وجوب أن تعكس أي منصّة سعر الصرف الحقيقي في السوق، وأن تعتمد المصارف هذا السعر "بحيث يكون السوق هو من يحدّد سعر الصرف، وهذا هو التحرير المفيد الذي من شأنه أن يحلّ جزءًا كبيرًا من الأزمة، وعندها لا يعد هناك لولار، ويصبح الدولار المصرفي كالدولار الورقي. أمّا إنشاء منصّة بديلة لاستمرار الدعم بطريقة أو بأخرى فلن يفيد".
تحدّث النائب الثالث للحاكم سليم شاهين عن منصّة إلكترونية بديلة تتولى جهات دوليّة متخصصة إنشاءَها، وهذا الكلام مستغرب بحيث لا يمكن لجهة دوليّة أن تدير المنصة وفق راشد "يتحدثون عن بلومبرغ، من سيضخ دولارًا على المنصّة؟ هل ستعمد جهات دولية إلى ضخّ دولارات في لبنان لإدارة منصّة والحفاظ على سعر الصرف؟ بالتأكيد لا".
أسعار الخدمات بعد صيرفة
تسود حال من البلبلة بين الناس خصوصًا أنّ أسعار الخدمات ارتبطت بصيرفة كالكهرباء والهواتف الخلوية، وهذه الأسعار بعد إيقاف المنصّة ستصبح محكومة بسعر الصرف في السوق، فترتفع مع ارتفاعه. الدكتور راشد يرى أنّ تسعير الخدمات وفق صيرفة هو شكل من أشكال الدعم غير المجدي، الذي يستنزف الإحتياطي ولا يحلّ الأزمة "ما يحصل على صيرفة لجهة شراء الدولار بأقل من سعره في السوق هو مشابه لدعم الدواء، وبالنهاية وصلنا إلى مرحلة انقطع فيها الدواء، فيما المريض يفضّل أن يجد أدويته من أن تكون مدعومة ومفقودة".
تنقسم آراء الخبراء في الإقتصاد حيال صيرفة، يعبّر بعضهم عن تخوفه من أن يؤدي إيقافها إلى خضّة نقدية في الظرف الراهن، بظل استمرار الفراغ الرئاسي وعدم وجود رؤية اقتصاديّة ونقديّة وماليّة سليمة، فيما يعتبر البعض الآخر أنّها فشلت بعقلنة الدولار، وأدت إلى خسائر إضافية، والدكتور راشد من ارباب الرأي الأخير "تحرير سعر الصرف حتّى في الظرف الراهن هو أفضل من تثبيته المصطنع عبر التدخل بسوق القطع، لأنّ مضار التدخل أكبر بكثير من منافعه، ولو تحرّر سعر صرف منذ بداية الأزمة من دون تدخّل البنك المركزي لما كنّا وصلنا الى هذه المرحلة، باعتقادي 70% من الحل يكمن بتحرير سعر الصرف".
رغم الضبابية والتعقيدات يرى راشد أنّ الخروج من المأزق لا زال ممكنًا، مشددًا على وجوب أن يتمحور أي حلّ على حماية كل الودائع وليس شطبها، واستعادة الثقة وتعزيز الطبقة المتوسطة بدل تدميرها، كونها العمود الفقري للإقتصاد، وقد أرسل مؤخرًا رسالة إلى الممثل الدائم لصندوق النقد الدولي في لبنان فريديركو ليما ضمنها مقاربته القائمة على اعتبار ودائع المصارف التزامات وليست خسائر.