على رغم الضباب الكثيف الذي يلف قصر بعبدا، والذي يحول دون وضوح الرؤية الخماسية الأبعاد، لا يزال سفراء الدول الخمس يحاولون لعل وعسى. ولكن في عمق أعماق أنفسهم هم مقتنعون بأن ما قاموا به من جهود حتى الآن غير كافية لإنتاج رئيس "صُنع في لبنان" بنكهة خماسية. فالجميع يعرف أن الأزمة الرئاسية أكبر بكثير من مجالها المحلي الضيق، وهم يدركون أن مفتاح الحل خارجي أكثر منه داخلي. فمتى تأمنت الظروف الخارجية المؤاتية فإن العقد الداخلية لا تعود تشكّل مشكلة أساسية. والدليل على ذلك أنه يوم لم تمانع المملكة العربية السعودية انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية قَبِل الأفرقاء اللبنانيون بهذا الخيار على رغم التناقضات الكثيرة بينهم، فكان توافق تكرّس باتفاق "بيت الوسط" أولًا، وثانيًا جاء "اتفاق معراب" ليكرّس الرئاسة لمرشح "حزب الله". ولولا عدم اعتراض الرياض المشروط لما تأمنت للعماد عون "مباركة" كل من الرئيس سعد الحريري ورئيس حزب "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع.
السفراء الخمسة لا يتحرّكون من تلقاء أنفسهم، بل وفق التعليمات التي تأتيهم من دولهم. ولكن وعلى رغم اقتناع كل هذه الدول بأن "الطبخة الرئاسية" في لبنان لم تنضج بعد فأنها أوعزت إلى ممثليها في هذه اللجنة مواصلة مساعيهم الهادفة في الدرجة الأولى إلى تهيئة المناخات الداخلية لملاقاة أي تسوية ممكنة بين واشنطن وطهران والرياض، والتي لم يحن أوانها بعد أقّله بالنسبة إلى الأزمة اللبنانية من بوابتها الرئاسية.
فانشغالات الادارتين الأميركية والإيرانية أكبر بكثير من محدودية مفاعيل الأزمة اللبنانية، إذ أن تطورات الحرب الدائرة في غزة بعدما دخلت طهران فيها بالمباشر ردًّا على قصف قنصليتها في دمشق، مع ما لهذا التدّخل المباشر من مؤشرات سياسية وأمنية لا يمكن وضعها سوى في خانة العلاقات الأميركية – الإيرانية المتأرجحة، والتي يشوبها مدّ وجزر يعتقد كثيرون أن أوان إيجاد سوية لها لم يحن بعد، خصوصًا أن واشنطن مشغولة حاليًا بالسباق الرئاسي إلى البيت الأبيض في الخريف المقبل، وما يمكن أن يسفر عنه من نتائج سيكون لتأثيراتها الأثر الكبير على مجريات التطورات في أكثر من منطقة من العالم، ومن بينها منطقة الشرق الأوسط، الذي يبقى لبنان وأزماته المتشعبة تفصيلًا صغيرًا في مجمل "البازل" الإقليمي الشديد التعقيد.
فما خلصت إليه كتلة "الاعتدال" هو أن اجتماعها الثاني بكتلة "الوفاء للمقاومة" لم يكن نسخة طبق الأصل عن اجتماعها الأول بها، بل غلب عليه طابع التشدُّد والإصرار على دعم ترشيح فرنجية لرئاسة الجمهورية، وإن كانت تحبّذ التريّث ريثما تتّضح معالم المرحلة السياسية في المنطقة، ليكون في وسع الحزب أن يبني على الشيء مقتضاه.
ومع أن "حزب الله" أعلن في السابق أكثر من مرّة أنه لا يربط انتخاب الرئيس بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، فإن ما قاله، ولو في صورة غير مباشرة هذه المرّة، كشف بما لا يقبل الشك عن عدم استعداده لفك هذا الارتباط بينهما، بخلاف الانفتاح والمرونة التي أبداها في اجتماعه الأول.
ولم يلمس أعضاء "الاعتدال" من نواب "الحزب" الاستعداد للسير بخيار المرشح الرئاسي الثالث، الذي تحاول "اللجنة الخماسية" العمل عليه. وهذا ما كان واضحًا في كلام رئيس حزب "الكتائب اللبنانية" النائب سامي الجميل، الذي أبدى استعداده للتجاوب مع أي دعوة للحوار شرط أن يتخلّى "حزب الله" عن ترشيح فرنجية وملاقاة الفريق المعارض إلى منتصف الطريق عبر الذهاب إلى تسمية مرشح توافقي ثالث.
وترجّح مصادر نيابية مطلعة أن يكون تشدّد موقف "حارة حريك" من موضوع ترشيح فرنجية ناجمًا عن دخول إيران مباشرة في الحرب ضد إسرائيل، ومراهنتها على ما يمكن أن يحدثه هذا التدّخل المباشر من إعادة خلط الأوراق في المنطقة. وهذا ما من شأنه أن يُدخل الاستحقاق الرئاسي في سبات طويل، في انتظار وضوح الصورة القاتمة وانكشاح غبار الحرب.