لقد بات واضحًا أن جلسة 9 كانون الثاني ستحمل جديدًا. ولكن هذا "الجديد" لن يكون بالضرورة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بل لما يمكن التأسيس عليه للمستقبل. وهذا لا يعني أن احتمال رؤية الدخان الأبيض يتصاعد من مدخنة ساحة النجمة غير وارد في المطلق، خصوصًا إذا استطاعت القوى السياسية المؤثرة التوصّل إلى قواسم مشتركة بالنسبة إلى المواصفات المطلوبة للرئيس الرابع عشر للجمهورية الثالثة. وقد يكون ما سيعلنه رئيس تيار "المردة" الوزير السابق سليمان فرنجية من مواقف رئاسية سيتخذها اليوم من بين التطورات المتسارعة الدافعة نحو حسم الخيارات، وبالأخصّ لدى بعض النواب الذين لا يزالون متردّدين في اتخاذ موقف حاسم ونهائي قبل أن تنقضي الفترة الفاصلة بين اليوم وتاريخ التاسع من الشهر المقبل.
وفي اعتقاد بعض الأوساط السياسية المعنية أن كثيرين من اللبنانيين لم يستطيعوا أن "يهضموا" حتى الآن مفاعيل التطورات المتسارعة على الساحتين اللبنانية والسورية على حدّ سواء. وهذا ما يقود هذه الأوساط إلى استنتاجات أولية. وقد يكون أول هذه الاستنتاجات من حيث التسلسل المنطقي لهذه التطورات عدم توافق القوى السياسية في لبنان على تحديد ملامح المرحلة المقبلة بعد كل ما شهده لبنان من متغيّرات لا بد من أن يكون لها التأثير المباشر على الاستحقاق الرئاسي.
فإذا تمّ التوافق بين اللبنانيين المختلفين في العادة في كل شيء على تحديد معالم المرحلة الآتية بكل ما فيها من تحدّيات بعد كل هذه الأعاصير التي شهدتها الساحة اللبنانية يمكن عندئذ القول إن جلسة 9 كانون الثاني ستكون مثمرة. أمّا إذا لم يتعلم اللبنانيون شيئًا مما مرّوا ويمرّون به من ويلات وانتكاسات فإن هذه الجلسة ستكون كسابقاتها، وبالتالي يدخل لبنان من جديد في "بارزار" التسويات والمساومات، التي لم تنتج في الماضي حلولًا ناجعة، وهي بالتأكيد لن تنتج ما ينتظره جميع اللبنانيين من حلول يؤمل في أن تحمل في طياتها ما يبلسم جراحاتهم. فالتداوي بالأعشاب والمسكّنات الموضعية لم يعد يفيد. لقد جُرّب في الماضي هذا النوع من التداوي ولم يأتِ بالنتائج المطلوبة.
فإذا توصل اللبنانيون بعد كل هذه المعاناة إلى رؤية مشتركة بحدّها الأدنى بالنسبة إلى المستقبل المختلف كليًا عن ماضٍ لم تكن تجاربه الكثيرة مشجعة، فإن جلسة الاستحقاق الرئاسي في الموعد الذي اختاره الرئيس نبيه بري قد تكون بداية البدايات لحلول مستدامة، ومن ضمنها الرئاسة الأولى كأولوية لن تكتمل عناصر أي حل من دون رئيس سيُحمَّل أكثر من طاقته. ولذا فإن أي رئيس عادي هو خيار مرفوض. وهذا النوع من الرؤساء لن يمرّ لا في جلسة 9 ولا في أي جلسة أخرى.
ما يشهده لبنان منذ الثامن من شهر تشرين الأول من العام الماضي هو أكثر من زلزال، وإن كان البعض يحاول تصوير ما حدث في هذه الفترة الزمنية العصيبة من عمر الوطن بأنه "انجاز" من بين "إنجازات" كثيرة قد تحقّقت، وكأن هذا البعض لم يشاهد ما حلّ بالجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت من دمار وخراب.
من هنا ترى هذه الأوساط السياسية أن بداية البدايات تكون بالتعامل مع الوقائع كما هي، وليس كما يحلو لهذا الفريق أو ذاك التعامل معها من منطلقات غير واقعية وغير ملموسة. ومتى تمّ تخطّي هذه المرحلة التصالحية مع الماضي والتأسيس لمستقبل أفضل، يمكن عندها الانتقال إلى مرحلة متقدمة أكثر في الزمان والمكان المناسبين للخروج من دوامة الأعاصير. وانطلاقًا من هذه المعادلة الواقعية يمكن تحديد الأولويات. وتأتي الانتخابات الرئاسية في رأس قائمة هذه الأولويات، على أن يكون الرئيس الرابع عشر بمستوى الاستحقاقات التي ينتظرها لبنان بفارغ الصبر، وإن تطلب الأمر العضّ على الجراح لفترة زمنية قد تكون قصيرة أو طويلة استنادًا إلى مدى قابلية اللبنانيين على التأقلم مع واقعهم الجديد.
فالرئيس الرابع عشر لن تسمح له الظروف الصعبة بالراحة، لأن ما سيُلقى على كتفيه هو حمل ثقيل لن يستطيع أن يحمله لوحده. ولذلك فإن المطلوب هو رئيس ذو منكبين عريضين، وذو خبرة سياسية واسعة. والأهم من كل هذا ألاّ يضعف أمام الصعوبات والمحن وربما التهديدات.