قبل 24 ساعة من فتح أول صناديق الاقتراع أمام الناخبين اللبنانيين في الدول العربية، في إطار منح الاغتراب "حقه" في اختيار نوابه للمرّة الثانية في تاريخ لبنان، يخيّم "الصمت الانتخابي" في مرحلته الأولى على الأجواء العامة في البلاد، وسط "شكاوى" من "ديمومة" هذا الصمت، الذي سيصبح "شبه ثابت" من الآن وحتى "اليوم الموعود" في 15 أيار، مع استثناءات قليلة الأسبوع المقبل.
لكن، قبل هذا "الصمت الانتخابي"، بدا واضحًا أنّ "الحملات الانتخابية" التي تكثّفت في الأيام القليلة الماضية، وصلت إلى "ذروتها"، بل ربما "جنونها"، على وقع السجالات والسجالات المضادة التي رُصِدت في الساعات الأخيرة بين القوى والأحزاب السياسية، وبين المرشحين واللوائح، أو "عرّابيهم" إن جاز التعبير، والتي لم تخلُ من خطابات التحريض والقدح والذم التي يحظرها القانون الانتخابي أساسًا.
وبالتوازي مع "الحملات الانتخابي"، سُجّل دخول لافِت على الخطّ "الانتخابي" لبعض رجال الدين، حيث برزت بعض "الفتاوى" هنا وهناك، حول كيفية التعاطي مع الانتخابات، في ظلّ دعوات للمشاركة الكثيفة والفعلية في الانتخابات، وهو ما قد يكون مفهومًا ومبرَّرًا، إلا أنّه وصل في بعض المحطات إلى ما يشبه "التكليف الشرعي" بالتصويت لمرشحين ولوائح معيّنة، و"تحريم" سائر الخيارات، وهو ما أثار جدلاً واسعًا في الأوساط السياسية.
بين "الحلال" و"الحرام"
في عطلة نهاية الأسبوع وعيد الفطر، وعلى وقع "الحماوة الانتخابية" التي وصلت إلى "الذروة"، تصدّرت "عظات" دينية المشهد، حيث كانت لافتة الدعوات التي وُجّهت من قبل العديد من رجال الدين إلى المشاركة بكثافة في الانتخابات، أو حتى التصويت لخيارات محدّدة، إصلاحية وتغييرية، وهو ما قد يكون مفهومًا، باعتبار أنّ دور رجل الدين ينبغي أن يكون توعويًا تثقيفيًا إرشاديًا إلى حدّ بعيد.
لكنّ الأمور لم تقف عند هذا الحدّ، حيث توقف كثيرون عند خطبة المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان مثلاً، التي لاقت رواجًا واسعًا، بعدما وُصِفت بأنّها "تكليف شرعي"، حيث وصف الاستحقاق الانتخابي بـ"الفريضة الوطنية والأخلاقية"، معتبرًا أنّ "من يعتزل المعركة الانتخابية، إنما يعتزل أكبر فرائض الله"، بل ذهب إلى حدّ تعداد سلسلة من "المحرّمات"، بقوله: "التردد ممنوع بل حرام، وترك المعركة الانتخابية حرام، والورقة البيضاء حرام".
وبدا هذا الموقف "متناغمًا" مع موقف سبق أن أطلقه رئيس المجلس السياسي في "حزب الله" السيد إبراهيم أمين السيد حين اعتبر الانتخابات بمثابة "فرصة عبادية"، وشبّه الذهاب إلى صناديق الاقتراع والتصويت في الانتخابات بـ"الصلاة في المساجد"، وهو ما يثير مجدّدًا إشكالية "الفتاوى الانتخابية"، التي أدخلت مفاهيم "الحلال والحرام" في صلب العملية السياسية، التي تفترض أساسًا انّ "المقاطعة" مثلاً هي خيار مشروع للناخبين لا جدال حوله.
ماذا يقول قانون الانتخاب؟
يشير الخبراء الانتخابيون إلى أنّ مثل هذه الفتاوى لا يمكن أن تكون مقبولة لأنها بكل بساطة تتناقض مع مبدأ أساسيّ يقوم على حرية الناخب باختيار ما يريده، ولا سيما أنّ الانتخابات ليست "عبادة"، ولا "ضوابط" فيها، وبالطبع "لا حلال ولا حرام"، ومن حقّ أيّ ناخب أن يصوّت بورقة بيضاء مثلاً في حال لم يعجبه أيّ مرشح، علمًا أنّ مثل هذه الورقة البيضاء، رغم "محاذيرها" في ظلّ القانون الساري، هي بحدّ ذاتها "رسالة" توازي ربما أهمية الصوت.
وصحيح أنّ القانون الانتخابي لا ينصّ صراحة على منع رجال الدين من الإدلاء بدلوهم في الملف الانتخابي، لصالح مرشح أو لائحة، وفق الخبراء الانتخابيين، إلا أنّ "روحية" مثل هذه الحظر يمكن أن تُفهَم من المادة 77 مثلاً التي تحظر استخدام دور العبادة، إلى جانب سائر المرافق العامة، لأجل إقامة المهرجان وعقد الاجتماعات واللقاءات الانتخابية والقيام بالدعاية الانتخابية، كما تمنع "موظفي الدولة ومن هم في حكمهم" من الترويج لأي مرشح.
ولأنّ المادة نصّت صراحة على عدم جواز توظيف دور العبادة في الشأن الانتخابي، يشير هؤلاء الخبراء إلى أنّ البديهيّ ترك "مسافة" بين الدين والسياسة، وعدم الخلط بينهما، لا من أجل الترويج لمرشح فحسب، بل من أجل القول أيضًا إنّ عدم التصويت له هو من "المحرّمات"، علمًا أنّه إذا كان الترويج مقبولاً من قبل بعض رجال الدين الذين "يمتهنون" السياسة، بموجب النظام اللبناني، فإنّ إدخال "الحلال والحرام" فيه ليس عملاً سياسيًا على الإطلاق.
في النتيجة، يبدو واضحًا أنّ المعركة الانتخابية تزداد "حدة" يومًا بعد آخر، ومع بدء المواعيد "الحاسمة" على خطّها، وهو ما قد يبرّر دخول رجال الدين كغيرها على خطّها. لكنّ الأكيد أنّ "حماوة" المعركة لا ينبغي أن يكون مبرّرًا لإخراج "الديمقراطية الانتخابية" عن مسارها، وصولاً إلى "تسييس العبادات" في ظاهرة قد لا يكون لها أثر سوى في لبنان!