لا شكّ أنّ كلّ الأنظار اتجهت أمس إلى الجلسة التي عقدها البرلمان اللبناني لأسباب واعتبارات كثيرة، أولها أنّها أولى الجلسات التشريعية لمجلس النواب المنتخب حديثًا، وبالتالي لما شكّلته من "اختبار" للكثير من النواب، ولا سيما الجدد منهم، وثانيها بالنظر للأجندة "الدسمة" التي حملتها بين طيّاتها، على وقع الأزمات المتفاقمة التي يواجهها البلد على أكثر من صعيد.
فبين التعديلات التي طال انتظارها على قانون السرية المصرفية، في إطار الإصلاحات المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي، بناءً على الاتفاق المبدئي الذي تمّ توقيعه قبل فترة، وبين اتفاقية القرض المقدّم من قبل البنك الدولي لتنفيذ مشروع الاستجابة الطارئة لتأمين إمدادات القمح، على وقع أزمة "طوابير الخبز"، وما بينهما الحديث المتجدّد عن "رفع الدعم"، شكّلت الجلسة محطّ اهتمام لكثيرين، في ضوء وجوب التحرك لمعالجة الأزمات التي وصلت إلى "ذروتها".
لكن، بعيدًا عن كلّ هذه الملفات الداهمة، على حساسيّتها وخطورتها، شكّلت الجلسة "مناسبة"، مرّة أخرى، لفضح مستوى "الرقيّ" الذي يتمتع به النواب، وحجم "انفصام" بعضهم عن الواقع، حيث اختاروا أن "يقفزوا" على هموم الناس، متجاوزين الدور "الوطني" الذي يفترض أن يلعبوه، لصالح الوقوع في فخّ العنصرية والذكورية، وهو أمرٌ فاقمه أنّ الجلسة جرت وسط حضور دبلوماسي أجنبي لافت، وربما معبّر!
تنمّر واستقواء
كثيرة هي "الخبريات" التي تناقلها الصحافيون والإعلاميون عن بعض "المفارقات" التي شهدت عليها الجلسة التشريعية، والتي شملت في جملة ما شملته، "تنمّرًا" من قبل بعض النواب على زملائهم، كأن "يحوّر" أحدهم عائلة زميلته، فيجعلها "صراصير"، وهو ما كان مستغربًا أن يمرّ مرور الكرام، في مجلس يفترض أن يكون "القدوة" للنقاش الواعي والصريح.
ولم تخلُ مفارقات الجلسة أيضًا من "استقواء" بعض النواب على زملائهم، بمعزل عن الحيثيات والخلفيات الفعلية الكامنة خلف ذلك، علمًا أنّ بعض النقاشات خرجت عن سياقها، كما بدا واضحًا من الروايات التي تمّ تناقلها، ليُظهِر وجود "انطباع سلبي" لدى النواب أنفسهم، وربما "ريبة" من بعضهم البعض، وهو ما تجلى مثلاً في قول رئيس مجلس النواب نبيه بري أكثر من مرّة، أنّ هناك "من لا يريد لهذه الجلسة أن تُعقَد"، من دون أن يوضح المغزى من كلامه.
ولعلّ ما كان لافتًا على هامش الجلسة تمثّل في التغريدة التي نشرتها النائبة سينتيا زرازير، التي ذهبت بعيدًا في انتقادها لزملائها المفترضين، حيث تحدّثت عن "ذكورية" لدى نواب السلطة تتفوّق على "رجولتهم"، وفق تعبيرها، لافتة إلى العديد من "الشواهد" على ذلك، تبدأ بـ"التلطيش"، ولا تنتهي بـ"التنمر"، وهو ما يفترض أن يكون موضع مساءلة جدية، خصوصًا أنه يرتبط بإشكالية أخلاقية جدية، ينبغي أن تولى العناية اللازمة، لو صحّت طبعًا.
إشكالات "مفتعلة"؟!
بموازاة هذه "المفارقات" التي تحمل بين ثناياها الكثير من "الإهانات" للعمل المؤسساتي قبل أي شيء آخر، فإنّ هناك "رواية أخرى" يتبنّاها البعض، ممّن يحاولون "تبرير" مثل هذه الممارسات، إن جاز التعبير، من خلال رمي الكرة في ملعب النواب الذين يتحدّثون عن "مظلومية"، ويشكون "التعامل الفوقي"، وسواه من الإشكاليات، باعتبار أنّهم من "يفتعلون" الخلافات، قبل أن يحوّلوا أنفسهم إلى "الضحية".
في هذا السياق، يقول البعض إنّ ثمّة عددًا من النواب، ولا سيما الجدد منهم، وبينهم من يطلقون على نفسهم اسم "نواب التغيير"، يحضروا إلى المجلس وقد أعدّوا عدّة "المواجهة"، فينتظرون زملاءهم "على الكلمة"، وبدل أن يركّزوا على "إنجاز" ما هو مطلوب منهم، يصبح شغلهم الشاغل هو "استفزاز" النواب الآخرين، أو "تضخيم" بعض المسائل، ما يؤدي إلى "إلهاء" الرأي العام بقضايا أبعد ما تكون عن "الجوهر" الذي يفترض أن يكون التركيز منصبًّا عليه.
وبمعزل عن مدى "صوابية" هذا الرأي، يبقى الأكيد أنه، حتى لو صحّ، لا يمكن أن يشكّل "عذرًا"، لأيّ ممارسات "فوقية" من النواب على زملائهم، فالمطلوب من الجميع التحلّي بحسّ المسؤولية، بالحدّ الأدنى، وهو ما لم تُظهِره مداولات الجلسة التشريعية وفق ما سُرّب من نقاشاتها، والأكيد في هذا السياق أنّ الحديث عن "استفزاز" وما شابه، لا يمكن أن يكون "مبرّرًا" للانجرار إلى مستويات "رخيصة" لا تمثل العمل البرلماني بأيّ شكل من الأشكال.
قد لا يكون جديدًا الحديث عن "رقيّ" في الأداء "الخطابي" للنواب، فمثل هذا السلوك لطالما رافق البرلمانات المتعاقبة، وقد يكون من "الظواهر" اللافتة في الوطن العربي بأسره، لكنّ الأكيد أنّ الأزمة اللبنانية المتفاقمة، على وقع "الجمود" الذي يسيطر على كل الاستحقاقات الداهمة، وفي ظلّ عدم قدرة الناس على "الصمود" أكثر، يجب أن تكون دافعًا للنواب، "كلن يعني كلن"، لمقاربة مختلفة، يفترض أن تكون "مسؤولة" بالحدّ الأدنى!