من يتابع مشاهد المواطنين العائدين الى قراهم في الجنوب والبقاع سيذهب حتما لاعلان المنتصر في هذه الحرب. لكن بعيدا عن كون الارادة في الاستمرار في المواجهة وقدرة المجتمع على استيعاب الضربات وتحملها واستمراره في دعم المقاومة بالشكل الذي ظهر خلال الساعات الماضية، الا ان معايير الربح والخسارة قد تكون معقدة اكثر بكثير من المتوقع في هذه الحرب التي بدأت في الثامن من تشرين الاول من العام الفائت وانتهت قبل 24 ساعة فقط.
عمليا، لم تستطع اسرائيل كسر ارادة بيئة "حزب الله" وهذا الامر قد يكون من عوامل الانتصار الذي سيحسب للحزب، فمن يشعر انه انتصر هو يمتلك محصول الانتصار الاكبر، ومن يشعر بالهزيمة يكون متراجعا بالنقاط وهذا ما حصل في هذا الجانب. عاد الجنوبيون الى بيوتهم في شعور مستمر بأن الحزب قادر على ردع اسرائيل، وهذا ما يعطي الامان لمجتمع كامل، ويعطي ايضا غطاء مستقبليا للحزب في اقصى قرى الجنوب ناهيك عن المشهدية الاعلامية التي كانت عفوية بجزئها الاكبر ومدعمة لوجستيا من "حزب الله".
لكن على مستوى الضربات، تفوقت اسرائيل على "حزب الله" بشكل كبير، فقد وجهت له ضربات امنية كبيرة لم يكن اولها البايجر وليس اخرها اغتيال السيد حسن نصرالله والسيد هاشم صفي الدين. احبطت اسرائيل عبر خرق تكنولوجي وبشري كبير خطة "حزب الله" للحرب، فقاتل الاخير بمستوى العام 2006 مع بعض التحسينات النوعية في الوقت الذي كان قد استعد لمستوى يرتقي لحرب العام 2030.
استخدم الحزب لاسباب كثيرة لا مجال لذكرها اليوم جزءا بسيط من قدرته فخسر الردع الى حد كبير مع انه استطاع ترميم جزء منه خلال الحرب، وتحت النار عند قصف تل ابيب والكريوت وحيفا. حتى ان الطلقة الاخيرة كانت لاسرائيل بعكس كل الحروب السابقة التي تمكن الحزب من تسييرها كما شاء نسبيا.
بالرغم من ذلك فإن الشكل الذي انتهت فيه الحرب اعطى الحزب نقاطا اضافية في توازن الردع. اولا، لم تنته الحرب فقط لاسباب سياسية مرتبطة برغبة الادارة الاميركية، علما ان هذه الرغبة لعبت دورا كبيراً في ذلك، لكن من الواضح ان اسبابا عسكرية مرتبطة بإسرائيل لها دور كبير ايضاً وهذا يمكن تفصيله لفهم طبيعة المعركة والهشاشة التي كُشفت في الجسم العسكري الاسرائيلي.
لن يصل "حزب الله" في تاريخه، مهما حصل في المستقبل، الى مستوى الضغف الذي وصل اليه بين مرحلة اغتيال القيادي العسكري فؤاد شكر ومرحلة ما بعد اغتيال السيد حسن نصرالله. عمليا كاد الحزب يختفي من الوجود. لامس التهديد الوجودي كل اجهزة الحزب حتى السياسية والتنظيمية وليس فقط العسكرية، وخسر القدرة على التواصل الداخلي اضافة الى خسائر كبيرة في الامكانيات التي كانت محضرة ومجهزة للحرب وهذا يشمل الاسلحة والصواريخ والبنى التحتية العسكرية ولذلك اسباب قد يكشف عنها الزمن في مرحلة مقبلة.
امام هذا المشهد، الذي لن يتكرر، لم تستطع اسرائيل هزيمة "حزب الله" بالرغم من كسرها لميزان الردع. فشلت اسرائيل بريا فشلا ذريعاً ولم تستطع تحقيق نتائج فعلية لا بل وتكبدت خسائر هائلة في الاليات والجنوب، لكن عامل الحرب البرية ليس العامل العسكري الاساسي في ايقاف الحرب، بل ان النقص الحاد في مخزون القبة الحديدة هو المشكلة. فالحزب استطاع استنزاف القبة الحديدة من خلال اطلاق بين 100 و200 صاروخ يوميا على مدى شهرين، فكيف اذا كانت الاطلاقات تفوق الـ 1000 يوميا، وهذا ما كان محضرا للحرب الامر الذي تعلمه اسرائيل جيدا وهو الذي اخر الحرب سنوات عدة. هذا الواقع يزيد من قدرة الحزب على ترميم الردع، خصوصا ان اسرائيل تعلم ان "حزب الله" مهما حصل يستطيع قصف الداخل الاسرائيلي بهذا العدد من الصواريخ لمدة سنة او اكثر مهما كان سيناريو الحرب.
وعليه فإن هشاشة الواقع العسكري الاسرائيلي سيجعل اسرائيل غير راغبة على إعادة الكرة وهذا ما قد يحصن الاتفاق الموقع حاليا ويزيد من فرص نجاحه، ويعدل الميزان ليخفف من خسارة الحزب العسكرية والامنية.
اما في السياسة فقد استطاع "حزب الله" تحقيق انتصار غير متوقع، اذ ان الوصول الى اتفاق يعيد المشهد الى ما كان عليه قبل 9 اكتوبر، على قاعدة تطبيق القرار 1701 لم يكن في احلام اكثر المتفائلين من مناصري الحزب وحلفائه بعد كل الضربات التي وبعد تقدم اسرائيل وكسرها لموازين الردع الى حد كبير. امام هذا المشهد يمكن القول ان الخلاف بين وجهات النظر في الاجابة على سؤال من انتصر في هذه الحرب يجب ان يكون محصورا بالتالي:اما ان الحزب قد حقق انتصاراً بطعم الهزيمة او انه انهزم لكنها هزيمة بطعم الانتصار.