يعيش اللبنانيون تحت وطأة الأزمات الاقتصادية التي تصاعدت مع توسع العدوان الإسرائيلي في أيلول الماضي. ومع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، إلا أن ذلك لم يخفف من اندفاعة اللبنانيين نحو الذهب للحفاظ على المدخرات وسط انهيار الثقة بالمصارف وتدهور الوضع المالي منذ عام 2019، على الرغم من تراجع الطلب.
وتقول ريتا صاحبة محل مجوهرات في إحدى القرى الجنوبية، إن الحرب لم تمنع الناس من شراء الذهب خاصة بسبب عدم قدرتهم على إيداع الأموال في المصارف، وأكدت أن النسبة بين البيع والشراء متوازية.
وأضافت ريتا في حديث مع "العربي الجديد" أن "العديد من الأشخاص يبيعون الذهب لشراء احتياجاتهم اليومية منذ تصاعد الحرب وتزايد النزوح، بينما آخرون يعمدون إلى شرائه بما هو استثمار للمستقبل خوفاً من تدهور الأوضاع أكثر في البلد".
بينما أكدت لين وهي موظفة في محل مجوهرات في برج حمود في بيروت، أن هناك حركة مستمرة من الزبائن، خاصةً مع الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها البلد. وقالت لين: "الأشخاص الذين يشترون الذهب يفضلون القطع الصغيرة مثل السلاسل والليرات الذهبية، والتي يعتقدون أنها ستكون أكثر قابلية للبيع السريع إذا استمر الوضع الاقتصادي والأمني في التدهور".
وأوضحت لين أن بعض الأشخاص يشترون الذهب بوصفه وسيلة للشعور بالأمن المالي بسبب الوضع السياسي والأمني في البلاد، مشيرة إلى أن السوق المحلي شهد انتعاشًا ملحوظًا، ما دفع بعض التجار إلى افتتاح محلات جديدة لتلبية احتياجات المواطنين.
أسباب ارتفاع الأسعار
وصرّح الخبير الاقتصادي كمال حمدان، في حديث خاص لـ "العربي الجديد"، بأن الاتجاه نحو ارتفاع أسعار الذهب يعكس واقعاً عالمياً يتسم بالصراعات المتوحشة والحروب الباردة، بالإضافة إلى التنافس المتزايد بين الدول، وأوضح أن العالم يعاني من حالة عدم يقين متفاقمة، مع تصاعد أزمة المديونية العامة، خصوصاً في أوروبا.
وأضاف حمدان أن هذه المعطيات الاقتصادية والجيوسياسية تدفع الأفراد والمستثمرين إلى البحث عن أصول آمنة بمثابة ملاذ مالي، ويأتي الذهب في طليعة هذه الخيارات، مؤكداً أنه طالما استمرت المخاوف من عدم الاستقرار الأمني والاقتصادي عالمياً، إلى جانب عودة دونالد ترامب إلى الحكم واستمرار الحروب في لبنان والشرق الأوسط، فإن الطلب على الذهب سيشهد ارتفاعاً حتمياً.
وأشار حمدان إلى أن هذا التوجه ليس جديداً، إذ يعود إلى عام 1971 عندما تم فك ارتباط الذهب بالدولار، مما عزز مكانته أصلا آمنا في أوقات الأزمات.
تأثيرات الحرب
وصرّح رئيس نقابة تجار الذهب والمجوهرات في لبنان، نعيم رزق، في حديث خاص لـ "العربي الجديد"، بأن الطلب على أونصات الذهب والليرات الذهبية ما زال يتصاعد في لبنان، رغم ارتفاع الأسعار.
ومع ذلك، شهد الطلب على المجوهرات المصنعة انخفاضاً بسبب الحرب الأخيرة عل ىلبنان. وأوضح أن العمولة على أونصة الذهب في لبنان لا تتجاوز 15 دولاراً، ما يشجع المواطنين على شرائها لحماية مدخراتهم في ظل القلق الأمني والاقتصادي، مضيفاً أن أزمة المصارف في لبنان منذ عام 2019 دفعت المواطنين إلى التحول من العملات الورقية إلى الذهب لحماية مدخراتهم. وبيّن رزق أن العدوان الإسرائيلي الأخير أدى إلى انخفاض محدود في الطلب على الذهب مقارنة بالعام السابق، لكن الاندفاعة نحو هذا الملاذ الآمن لم تتوقف.
وأوضح أن المواطنين النازحين بسبب القصف يلجأون لحمل الذهب، حيث يمكن بيعه بسهولة دون خسارة قيمته. وأشار إلى أن الطلب المحلي على الذهب يتجاوز الكميات المتوفرة، مشيراً إلى فقدان الثقة في المصارف اللبنانية. وأضاف أن لبنان استورد ذهباً بقيمة 476 مليون دولار في 2019 وصدر بقيمة مليار و100 مليون دولار، بينما في 2021 استورد بقيمة مليار و200 ألف دولار وصدر بقيمة 150 مليون دولار، مما يشير إلى زيادة المبيعات المحلية بشكل كبير.
وأوضح أن فترة 2020 و2021، التي شهدت إغلاق الأسواق بسبب جائحة كورونا، كانت مختلفة عن عامي 2022 و2023، حيث ارتفع الطلب بشكل كبير، ما دفع إلى زيادة استيراد الذهب. وأشار إلى أن عمولة أونصة الذهب الوطنية ارتفعت خلال فترة كورونا من 15 دولاراً إلى 35 دولاراً، بينما وصلت عمولة الأونصة السويسرية إلى 100 دولار نتيجة الطلب المرتفع.
حماية المدخرات
وفي هذا السياق، قال عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أنيس بو ذياب، في حديث خاص لـ "العربي الجديد"، إن الذهب يُعتبر سلعة استراتيجية وملاذاً آمناً في علم الاقتصاد، وأوضح أن قيمته ترتبط بعوامل متعددة، مثل أسعار الفائدة، وأسعار النفط، وسلع أخرى، ومن الطبيعي أن تتغير أسعار الذهب مع الوقت بسبب الأزمات والتغيرات الاقتصادية في العالم، داعياً الناس إلى ترقّب ارتفاع الأسعار خصوصاً في ظل الحرب.
وبيّن أن الأزمات تدفع الناس إلى حماية ودائعها ومدخراتها من خلال الاستثمار في سلع ذات قيمة ذاتية، كالذهب، مما يوفّر نوعاً من الاستقرار في الأسواق المحلية. وأوضح أن السوق اللبناني صغير نسبياً، لكنه سيشهد زيادة في الطلب بالتزامن مع الطلب العالمي، نظراً لغياب الثقة بين المواطنين والمصارف منذ عام 2019، ما يدفع الناس إلى اللجوء لشراء الذهب لحماية مدخراتهم وقدرتهم الشرائية.
وأفاد بأن الأسواق المحلية تتأثر بالأسواق العالمية وليس العكس، وأن الحركة الاستهلاكية تتغير بناءً على هذه التأثيرات، كما أشار إلى توقعات صادرة عن مصارف عالمية بارتفاع سعر الذهب إلى أكثر من 3000 دولار بحلول نهاية عام 2025.
وحول تأثير السياسة الأميركية على الذهب، اعتبر بو ذياب أن انتقال السلطة في الولايات المتحدة بين بايدن وترامب سيؤدي إلى تغييرات اقتصادية كبيرة، لأن سياسات ترامب تركز على تقوية الدولار عالمياً، وقد تؤدي إلى انعكاسات سلبية على أسعار الذهب، وتوقع أن نشهد خلال الأشهر المقبلة انخفاضاً في سعر الذهب إلى حوالي 2300 دولار، قبل أن تستقر السياسة النقدية وتتضح توجهاتها.
كما أشار إلى أن سعر الذهب تاريخياً يتجه صعوديا بسبب عوامل مرتبطة بتراجع القدرة الشرائية للعملات الورقية عالمياً، وأضاف أن العملات المشفرة لعبت دوراً بارزاً في التأثير على الذهب، سواء من ناحية البيع أو الشراء. وتابع أن الذهب يتمتع بميزات فريدة منها سهولة نقله وعدم تأثره بالعوامل الطبيعية والفيزيائية، مقارنة بالعقارات التي تتطلب ظروفاً مختلفة للاستثمار.
ولفت بو ذياب إلى أن الظروف الراهنة في لبنان، خصوصاً نتيجة الحرب، جعلت الناس تميل إلى تفضيل الاحتفاظ بالسيولة النقدية بدلاً من الاستثمار في الذهب أو العقارات. (العربي الجديد)