في خضمّ التصعيد الإقليمي وتبدّل التوازنات الدولية، تعود المفاوضات غير المباشرة بين
الولايات المتحدة الاميركية وإيران إلى الواجهة، حاملة معها أسئلة جوهرية حول مستقبل النفوذ
الإيراني في المنطقة، وتحديداً حول ما إذا كانت هذه المفاوضات ستُفضي إلى إعادة رسم الخرائط السياسية في دول مثل
لبنان.
حتى الساعة، لا يبدو أن طهران مستعدة لفتح ملفات حلفائها الإقليميين، وعلى رأسهم "
حزب الله"، ضمن أجندة التفاوض. فالرؤية
الإيرانية، وفق مصادر مطّلعة، تعتبر أن أي نقاش أميركي جدي حول
حلفاء إيران يجب أن يتم مباشرة مع هؤلاء،"أنصار الله" في اليمن أو "حزب الله" في لبنان أو في
العراق. فالإيرانيون يرون أن مسألة النفوذ في المنطقة لا تُناقش كأولوية، بل تأتي لاحقاً حين تترسخ المكاسب في الملفات الأساسية؛ رفع
العقوبات، تثبيت البرنامج
النووي، إلا أن ذلك لا يعني أن ملفات النفوذ الإقليمي مغلقة بالكامل؛ فمع تقدم المفاوضات، قد يجد الإيرانيون أنفسهم في موقع يؤهّلهم للتفاوض على تقاسم النفوذ كجزء من تسوية شاملة في المنطقة.
وتقول المصادر أنه من المستبعد أن توافق إيران، لأسباب مصلحية، على التخلّي عن "حزب الله" أو حتى تحجيمه جذرياً. فالحزب لا يزال، رغم كل التحديات، يشكّل حجر الأساس في معادلة النفوذ الإيرانية في المنطقة. هو "دُرّة التاج" في استراتيجية طهران، ليس فقط كقوة عسكرية بل كلاعب سياسي داخل المؤسسات
اللبنانية؛ إذ يكفي أن نُشير إلى أن "الثنائي الشيعي" يمتلك أصواتاً في مجلس النواب تمنحه قدرة شبه حاسمة في أي استحقاق دستوري أو حكومي، وهذا عنصر لا تملكه طهران في أي ساحة أخرى بنفس الوزن.
من هنا، تبدو فكرة التخلي عن "الحزب" غير واردة واقعياً. فحتى في حال الوصول إلى تفاهمات إقليمية، فإن الطابع الذي ستأخذه في لبنان سيكون مختلفاً عن اليمن أو العراق أو حتى
سوريا، إذ يرتبط به توازن بالغ الدقّة والحساسية في معادلة الداخل والخارج.
ولكن، ما هو السيناريو المُرجّح في حال اتّجهت الأمور نحو تسوية؟
السيناريو الأرجح إذا اتجهت الأمور نحو تسوية فعلية هو الدخول في مرحلة هدنة طويلة الأمد، قد يُصوّرها خصوم "الحزب" على أنها تعطيل لوظيفة السلاح أو هزيمة لـ"حزب الله"، بينما يراها "الحزب" وحلفاؤه فرصة تمنحه مساحة لإعادة التموضع، ترميم البنية، وتجديد الخطاب الداخلي بما يتلاءم مع المرحلة الجديدة ويؤسس لمرحلة أخرى في
المستقبل.
من زاوية أميركية، لا تبدو
واشنطن في وارد استنزاف نفسها في أكثر من
جبهة. فالصراع الاستراتيجي مع
الصين، والذي يتجاوز
الاقتصاد إلى مجالات الذكاء الاصطناعي، التسلّح، النفوذ البحري، وحتى النفوذ السياسي يحتلّ حالياً المرتبة الأولى في سلّم الأولويات الأميركية.
الصين، التي تتقدّم بخطى ثابتة نحو إعادة رسم النظام العالمي، أصبحت تشكّل التحدّي الأكبر لهيمنة واشنطن، وبالتالي فإنّ هذا الأمر يفرض عليها تقليص التوترات في ساحات أقل أهمية نسبياً، مثل
الشرق الأوسط، أو على الأقل تحويلها إلى ملفات باردة يمكن إدارتها من دون تدخل مباشر أو صدام مفتوح. وهذا ما يجعل من أي اتفاق مع إيران فرصة لتقليل الفوضى
الإقليمية والتركيز على الجبهة الحقيقية.
لبنان إذاً لن يكون خارج سياق التفاهمات الكبرى، لكنه أيضاً لن يكون في واجهتها الأولى. موقعه في هذه المعادلة سيكون نتيجةً مباشرة لما تمثّله
المقاومة من ورقة استراتيجية لإيران، وما تمثّله من إرباك لواشنطن. أما في المشهد الكبير، فكل التسويات، بما فيها تلك التي تُكتب بهدوء بعيداً عن التصريحات في الاعلام، تبقى مؤقتة إلى أن تنضج معادلة القوة الجديدة في المنطقة والعالم.