بعد سنوات من الأزمة
المالية الخانقة، وما رافقها من تعقيدات في نظام المدفوعات وتقييد حركة الأموال، بدأ
لبنان يشهد عودة تدريجية لاستخدام "الدولار الفريش" في التداول اليومي، خصوصاً في قطاعات الاستهلاك والخدمات. ومع تحسّنٍ جزئي في توفر وسائل الدفع الإلكتروني، أصبح استخدام البطاقات المصرفية أكثر شيوعاً، لا سيما في ظل تنامي
المخاوف الأمنية من حمل "الكاش" وانتشار ظاهرة السرقات.
لكن، وفي مقابل هذه العودة الطبيعية للدفع الإلكتروني، يبرز سلوك مثير للجدل من قبل عدد من المؤسسات التجارية، لاسيما المتاجر الكبرى وسلاسل السوبرماركت وبعض المحال الشهيرة، وهو فرض رسوم إضافية على الزبائن عند الدفع بالبطاقة المصرفية. هذه الرسوم غالباً ما تُبرَّر على أنها تغطي عمولة شركات الدفع، رغم أن هذه العمولة تُعدّ من التكاليف التشغيلية المتعارف عليها في أي نشاط تجاري منظّم.
وبحسب شكاوى مواطنين، فإن هذه الرسوم تتراوح بين 1% و3% من قيمة الفاتورة، وتُفرض أحياناً بشكل صريح، وأحياناً تُضاف ضمن
السعر النهائي من دون شرح واضح. واللافت أن هذه السياسة تُطبّق بشكل انتقائي، إذ لا تُفرض في المحال الصغيرة التي تتعامل بالبطاقة كخدمة أساسية، بل في المتاجر ذات الربح العالي، ما يثير علامات استفهام حول الهدف الحقيقي منها.
الوزير السّابق والخبير الاقتصادي عادل أفيوني يوضّح أنّ "عمولة الدفع الاكتروني هي جزء من كلفة البيع، تماماً مثل كلفة الإيجار أو الكهرباء او غيرها. وهي طبعاً كلفة على البائع وليست على الزبون وتدخل في حسابات البائع العامّة.
ويضيف، "البائع اذاً يجب ان يحدّد ربحه وسعر السلع بشكل موحّد وشفاف على أساس كلفته الإجمالية وليس بالقطعة أو انتقائياً بحسب الزبون. لذلك لا يحق للبائع ان يميّز بالسعر بين من يدفع الكترونياً ومن يدفع كاش، فهذه بدع غير قانونية وغير منطقية، ولا يحقّ له ان يفرض رسوماً إضافية على من يسدّد إلكترونياً".
ويؤكّد أفيوني أن "على السلطات ان تكون صارمة في هذا الموضوع، وذلك لحماية المستهلك من بدع غير معهودة وغير مقبولة في الدول المتقدّمة". ويشير إلى أننا "نعيش في عالم يتبنى
الاقتصاد الرقمي، والاتجاه العالمي والعصري هو التخفيف من
اقتصاد الكاش. فهل يعقل ان نسبح عكس
التيار، وان يشجع التاجر الزبون على استخدام الكاش ويفرض على من يستخدم البطاقات الرقمية رسوماً إضافية؟
ويختُم، "إن اقتصاد الكاش يشجّع على التهرّب الضريبي ويسهّل تبييض الأموال والفساد، وعلى السلطات بذل أقصى جهدها لتسهيل الاقتصاد الرقمي والتسديد الإلكتروني ووضع حدّ لاقتصاد الكاش."
في ظلّ الظروف الأمنية والمعيشية الراهنة، لم يعد استخدام البطاقات المصرفية رفاهية، بل وسيلة
أمان ووسيلة تنظيم مالي معقولة. وقد ساهم انتشار هذه الوسيلة في تخفيف الحاجة إلى حمل مبالغ نقدية كبيرة، ووفّر وسيلة سريعة وآمنة للدفع. غير أن فرض رسوم عليها، يضع المستخدم أمام خيارين أحلاهما مُرّ؛ إما أن يدفع ضريبة خفية على كل عملية، أو أن يخاطر بحمل الكاش في
شوارع تفتقر إلى الأمان.
المفارقة أن الجهات الرقابية في لبنان، وعلى رأسها
وزارة الاقتصاد، لا
تتدخل بشكل واضح في ضبط هذه الممارسات. فبينما تُلزم القوانين المؤسسات بتسعير شفاف، لا يوجد نص صريح يمنع فرض رسوم على الدفع الإلكتروني، ما يتيح للتجار التلاعب تحت غطاء "
الحرية التجارية".
ومع تزايد
الاعتماد على الدفع الإلكتروني، خصوصاً بين فئات الشباب والموظفين، تصبح الحاجة إلى إطار قانوني واضح وملزم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. فالتكنولوجيا التي يفترض أن تسهّل حياة الناس، لا يجوز أن تتحوّل إلى وسيلة لابتزازهم.
في المحصّلة، لا يبدو أن الرسوم الإضافية على الدفع الإلكتروني هي مجرد تفصيل مالي
عابر، بل هي مرآة تعكس العلاقة المضطربة بين المواطن والقطاع التجاري، وعنوان جديد لسوء
التنظيم وغياب الرقابة. وبين حق المستهلك وحرية التاجر، تبقى الفوضى هي
القاعدة، ويبقى المواطن هو الحلقة الأضعف.