لم يعد يريد سكان البوشرية والجديدة وبرج حمود والضواحي أن يتنفسّوا!، إلى هذا الحدّ وصل بهم المطاف بسبب الروائح الكريهة جداً المنبعثة في الأجواء بشكل يوميّ، والمصدر طبعاً: مكبّ برج حمود. إنه لبنان حيث بات الموت اختناقاً، قدراً أو حكماً مبرماً.
اليوم تحديداً، تنتشر روائح ليس بالمقدور تحملّها. الصرخات التي وردت إلى "لبنان24" تكاد تكون مقصّرة في توصيف الحال وتعريف المعاناة بشكل دقيق، "فالحكي مش مثل الشوفة، أو بالأحرى الشمّ". "الناس تتقيأ في منازلها"، ثمة من يقول، وبعض أصحاب المتاجر أقفل أبوابه هرباً من هذا الجحيم. وفيما يهيمن الغثيان العام، تشتعل القلوب غضباً ونقمة سيّما وأن ما أدلى به وزير البيئة الجديد فادي جريصاتي في زيارته الأخيرة لـ "مطمر برج حمود" لم يكن سهل الهضم بالنسبة إلى أفراد يتنشقون كل دقيقة النتانة، بل يتخبطون في أسرّتهم قلقين من أمراض آتية وموت مؤجل. فبالله، كيف تكون الروائح المنبعثة من النفايات غير مؤذية؟!.
منذ فترة قصيرة، وتعليقاً على الشكاوى عن تزايد الروائح المنبعثة في المحلّة، أصدر مجلس الإنماء والإعمار بياناً توضيحياً حول أسباب انبعاثها فأشار إلى أنّه وبسبب "الطقس العاصف والممطر، تعذّر على المتعهد اتخاذ الإجراءات اللازمة لجهة تغطية النفايات بالأتربة اللازمة، وصعوبة عمل الآليات في الموقع نظرا لطبيعته الموحلة جدا خلال فترة العواصف".
وهذه النفايات المقصودة هي تلك التي تمّ تكديسها فيما يشبه "الباركينغ" وذلك عقب إقفال مطمر الناعمة والاعتصامات الاعتراضية التي سجلّت في تلك الفترة. اليوم، وبحسب مجلس الإنماء والإعمار، يتمّ نقل هذه "النفايات إلى خلايا الطمر الصحيّ بعد رشها بمواد للتخفيف من الانبعاثات والروائح الكريهة"، وقد "بدأت عملية النقل هذه خلال شهر تشرين الأول 2018...ومن المتوقع إنجازها قبل نهاية شهر شباط 2019".
إذاً، يحاول مجلس الإنماء والإعمار القول بأن الروائح تنتج من عمليات نقل النفايات من موقع تخزينها الموقت إلى "المطمر الصحيّ"، وهذا "جزء من الحل"، على حدّ تصريح وزير البيئة فادي جريصاتي.
لكن بالنسبة إلى النائب الكتائبي الياس حنكش، فإن المشكلة الأساسية لا تكمن في تفشّي الروائح بسبب عمليات النقل وبعض الإجراءات أو لأسباب أخرى، بل المشكلة الأساسية هي أصلاً في المطمر بحدّ ذاته.
في حديث لـ "لبنان24" ذكّر حنكش "أن حزب الكتائب ناهض مطمر الموت في برج حمود وصولاً إلى الاستقالة من الحكومة والتظاهر على مدى شهر، كما قدم إقتراحات وتوجه الى القضاء منذ حوالى السنتين للمطالبة بوقف الأعمال فيه".
واعتبر أنّه لم يكن طبيعياً ولا مقبولاً إقامة المطمر في منطقة مكتظة سكانياً، ناهيك عن أنّه ليس صحيّاً ولا يستوفي الشروط والمعايير كما يُشاع.
وإذ ذكّر بأن "حزب الكتائب عندما أنهى الاعتصام أمام المكبّ بسبب ضغوط السكان الذين أرادوا التخلّص من منظر النفايات بأي شكل من الأشكال"، كان يعلم أنّ الحلّ لا يمكن أن يخرج من قمقم ردم البحر بالنفايات، بل إن المشكلة ستتفاقم عاجلاً أم آجلاً.
وأشار إلى أنه ليس صحيحاً أن الروائح تنبعث من عصارة النفايات التي تحللّت في "الباركينغ" وحسب، بل إنها ناتجة أيضاً من سوء إدارة "المطمر" بحيث تُرمى فيه كلّ أنواع الزبالة من دون معالجة.
وكشف أنّ المشكلة الأكبر تكمن اليوم في أنّ بعض النواب يطالب بتوسيع هذا المطمر، و"هذا ما حذرّنا منه مراراً وتكراراً نظراً إلى مخاطره الكبيرة"، معتبراً أنّ "كل الإجراءات التي تتخذ على شاكلة وضع فلاتر وما شابه، لم تعد تجدي نفعاً، فالمطلوب واحد وواضح: وقف العمل بالمطمر نهائياً".
ماذا في الحلول؟
وعن الحلول، ذكّر حنكش أنّ "الكتائب" قدّم خطة واضحة تقضي بلامركزية معالجة النفايات، وهذا ما يستدعي تحرير أموال البلديات كي تتمكن من القيام بهذا الأمر تحت إطار رقابي محدد.
يدرك حنكش أنّ مشكلة النفايات هي أزمة عالمية، لكن "هناك حلول يمكن اتخاذها وليست بحاجة إلى عصا سحرية، لكن للأسف يتمّ تخييرنا دائماً بين السيء والأسوأ، والأنكى أنّ المعنيين لا يتحركون إلا حين انفجار المشكلة، ما يدلّ صراحة على غياب الاستراتيجية الشاملة لإدارة هذا القطاع".
وبالعودة إلى موضوع تأثيرات الروائح الكريهة على الصحة العامة، سيّما وأن وزير البيئة اعتبرها "غير مؤذية"، فقد أوضح الاختصاصي في الأمراض الجرثومية جاك مخباط في حديث لـ "لبنان24" أنّ "الروائح بحدّ ذاتها لا تسبب أمراضاً جرثومية والتي تحضر في حال تناول أطعمة أو شرب مياه ملوّثة جرثومياً، أو في حال التماس المباشر بالنفايات"، غير أنه لم يستبعد أن يؤدي تفكك المواد الكيمائية إلى الإصابة بأمراض مسمّة، مثل السرطان على سبيل المثال.
بدوره، أشار الاختصاصي في الأمراض الصدرية نبيل خوري لـ "لبنان 24" أنّ "الروائح، سواء كانت عطرة أو كريهة، تضرّ حكماً مرضى الربو والانسداد الرئوي".
ونفى الخبير البيئي والمتخصص بسموم الكيمياء الدكتور ناجي قديح أن تكون الروائح غير مؤذية كما قال الوزير، شارحاً لـ "لبنان24" أنّ "الرائحة الكريهة، التي تتحسسها خلايا الشمّ في أنوف الناس، ليست إلى جزيئات Molecules مركبات كيميائية من غازات وأبخرة وجسيمات صغيرة جدا ومتناهية الصغر، ينقلها الهواء لتدخل الأنوف وتلامس خلايا حاسة الشم، وتكمل طريقها عبر الجهاز التنفسي إلى عمق الرئتين، وبعضها يتابع انتقاله إلى الدورة الدموية وعموم أعضاء الجسم وأجهزته".
وتابع قائلاً:" هذه المركبات منها ما يحتوي على الأوكسجين من كحولات وكيتونات وأستيرات وأحماض عضوية، وكذلك فورانات عالية السمية. ومنها ما يحتوي على الكبريت من غاز كبريت الهيدروجين و المركبتانات عالية السمية، ومثيلات الكبريت وغيرها الكثير من المركبات الضارة. ومنها ما يحتوي على مركبات هيدروكربونية، عطرية وأوليفينية، وهالوجينية، مثل التربينات، والمنتين والكامفور، وهي مركبات ضارة للصحة البشرية. ومنها أيضا المركبات العضوية الطيَّارة، ومعظمها مواد تتمتع بخصائص متوسطة وعالية السميّة البشرية".
واعتبر د. قديح إن التعرض لانبعاثات قوية تثقل حاسة الشمّ عند البشر بروائحها الكريهة والقوية، لا يمكن القول، في أي حال من الأحوال، أنها آمنة صحيا وغير ضارة"، موضحاً في الوقت عينه أنّ "بعض الغازات والانبعاثات قد تكون أيضاً بلا رائحة لكنها في الوقت عينه مضرّة بالصحة".
وذكّر د. قديح بأننا "لا نتحدث هنا عن الأمراض الجرثومية بل عن التأثير السميّ الناتج من المواد الكيماوية والغازات والأبخرة والجزئيات...التي تتكوّن من خلطة النفايات غير المفروزة العجيبة، وهذه حال مكب برج حمود".
ورأى أن القول بأنها غير مؤذية هو "حديث تافه، أو ينمّ عن عدم معرفة حقيقية وعلمية بما يحصل، أو إن هدفه عدم إثارة ذعر المواطنين أو تهدئتهم كي لا يعترضوا على الخيارات الخاطئة".
وإذ لفت إلى أنّ اعتبار الروائح غير مؤذية هو بمثابة تضليل للناس كونه لا يرتكز إلى أي تفسير علميّ، أكدّ في المقابل أهمية عدم المبالغة بل توّسل اللغة العلمية لدى الحديث عن التأثيرات المحتملة.
وقال:" نحن كعلميين لا يسعنا إلا أن نقول الحقيقة من دون زيادة أو نقصان، والحال أنه شمّ الروائح الكريهة لا يعني بالضرورة التعرّض إلى تراكيز عالية تسبب تسممات حادة بشكل مباشر، لكن هذا لا ينفي وجود تأثيرات على المدى الطويل، إذ بمجرد دخول مواد غريبة على جسم الإنسان فإنه يتعرّض لضرر ما يتفاوت حجمه وقوته تبعاً لتفاصيل أخرة متعلقة بالتراكيز ومدة التعرّض وصحة الفرد، علماً أنّ الأكثر تعرضاً للمخاطر هم الحوامل وكبار السنّ والرضع والأطفال".
إذاً، وأمام هذه المعطيات والوقائع والثوابت العلمية، وفي حضرة وجع الناس والحياة السوداء التي يعيشونها يومياً وكأنهم يقومون بالأشغال الشاقة في سجن كبير قبل أن ينتقلوا إلى حبل المشنقة، يبدو من الضروري وقف العمل بالمكبّ وإيجاد حلول بديلة مستدامة، وغير مؤذية.
للأمانة، هل سمع وزير البيئة يوماً بالتدخين السلبي؟! حسناً، إنّ المدخنين السلبيين يتضررون مثلهم مثل شخص يشعل سيجارة تلو الأخرى. كيف؟! بسبب تنشقه الانبعاثات... والروائح! ألا ينطبق الأمر نفسه على موضوع النفايات وروائحها؟!