"حزب الله" مرتاح، من يستطيع الضغط عليه وإشغاله في الساحة اللبنانية، لا يريد ذلك، لإعتبارات عديدة، أهمها رغبته في الإبقاء على التسوية الرئاسية التي يُشكل الحزب جزءًا أساسياً منها، غير أن رئيس الحكومة سعد الحريري الذي يمكنه بقدرته الشعبية وحيثيته المذهبية فتح إشتباك مع "حزب الله"، أخذ منذ ما قبل الإنتخابات النيابية قراراً بالتركيز على العمل الحكومي وفصله عن الخلافات السياسية "التي لا يمكن حلها في المرحلة الحالية" كما تؤكد أوساط مستقبلية.
خيار الحريري، جعل أفرقاء قوى الرابع عشر من آذار غير قادرين على التأثير، وفي تعبير أقسى "هامشيين" في الحياة السياسية اللبنانية، وهذا ما شعر به كل من رئيس الحزب "التقدمي الإشتراكي" وليد جنبلاط ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع مبكراً. عمل جعجع بداية على ملء فراغ الحريري، فاتحاً علاقة كبيرة مع المملكة العربية السعودية، تفوقت في مرحلة ما على علاقة الأخيرة بالحريري، فأصبح جعجع رأس حربة قوى الرابع عشر من آذار، لكنه في الوقت نفسه حاول البقاء من ضمن جزءً من التسوية وعدم الخروج إلى المعارضة. حينها كان جنبلاط يفتح علاقة جديدة مع "حزب الله" توجتها الإنتخابات النيابية، وفي الوقت نفسه حاول الحفاظ على إستقرار علاقته مع الحريري.
لكن تغييراً جذرياً حصل في المشهد بعد الإنتخابات النيابية، وتحديداً بعد تأليف الحكومة، فقد وجد جعجع نفسه معزولاً، لم يستطع أي من حلفائه ولا علاقاته الإقليمية أن تحصّل له حصة وازنة في الحكومة في ظل إصرار خصمه اللدود رئيس "التيار الوطني الحرّ" جبران باسيل على الحصول على حصة الأسد في الحكومة وتضامن الحريري معه بوصفه شريك العهد.
إنكفأ جعجع عن المشهد بعد تأليف الحكومة، محافظاً على خطابه السياسي من دون أن يفتح معارك سياسية أو إعلامية، في ظل الأحاديث الدولية والإقليمية عن أن "حزب الله" إستطاع تطويع السلطة في لبنان بشكل شبه كامل. في تلك الفترة نقل زوار جعجع أنه محبط في السياسة، وأنه رفض عرضاً نقله الوزير وائل أبو فاعور من جنبلاط بضرورة عقد حلف حكومي يواجه باسيل و"حزب الله".
المفاجئ يومها كان إنتقال جنبلاط إلى الهجوم في السياسة بعد هدنة دامت منذ إنتخاب عون. فزعيم المختارة شعر بعد نتائج الإنتخابات النيابية ومشاركة خصمه الدرزي في الحصة الوزارية أنه مستهدف، وأن ثلاثي الحكم (الحريري، "حزب الله"، باسيل) أنهى فاعليته السياسية بشكل شبه كامل، فبدأ حراكه السياسي المعارض للعهد ولـ"حزب الله"، الأمر الذي أدى إلى إشتباكات سياسية متعددة معه دفعته إلى الإنكفاء، لم يكن أولها خطاب "زبط أنتيناتك" للأمين العام لـ"حزب الله"، ولا حرب التغريدات مع رئيس الحكومة ونوابه، وصولاً إلى إشتباك قبرشمون المسلح وما بينها من معارك حول معمل عين دارة.
في الشكل نقل إشتباك قبرشمون جنبلاط من وصفه زعيماً معارضاً للعهد إلى زعيم يرأس حربة قوى الرابع عشر من آذار. ففي حين يشتبك جعجع مع حزب "الكتائب" ويختلف بشكل كبير في الحكومة مع "المستقبل" والحريري، إستطاع جنبلاط حشد تضامن قوى الرابع عشر من آذار معه من دون إستثناء، من "القوات" إلى "الكتائب" إلى الشخصيات المستقلة، حتى أن الحريري الذي خاصم جنبلاط قبل أسبوع من حادثة قبرشمون عاد إلى التحالف معه وحمايته حكومياً عبر الوقوف إلى جانبه في مسألة المجلس العدلي.
ينقل بعض العارفين بسلوك جنبلاط السياسي أنه لا يذهب بعيداً في المعارك القاسية من دون غطاء دولي، وهذا يعني أن هذا الغطاء بات متوافراً، إذ إن الإشتراكي لم ينكفىء لإستيعاب الهجوم السياسي والإعلامي الكبير الذي تعرض له بعد حادثة قبر شمون، بل ذهب بعيداً في التصعيد المستمر به حتى اليوم.
يتطابق هذا التحليل مع معلومات نقلتها أوساط ديبلوماسية، عن أن الولايات المتحدة الأميركية وفي إطار ضغطها على "حزب الله" أعطت جنبلاط غطاءً سياسياً كبيراً، بما في ذلك الحماية السياسية، كما طلبت من أفرقاء قوى الرابع عشر من آذار التضامن الشكلي في أقل تقدير، وهذا ما يفسرّ الإلتفاف الكامل حول جنبلاط الذي يفتح وحيداً معركة سياسية وإعلامية ضدّ "حزب الله"، في حين أن جعجع يكتفي بالتضامن معه وتأييده والتركيز على معركته السياسية في الساحة المسيحية مع باسيل. أما الحريري الذي تكفل بحماية جنبلاط دستورياً وفي مجلس الوزراء يستمر في فصل الخلاف السياسي العام مع "حزب الله" عن القضايا الآنية حفاظاً على الإستقرار الحكومي.
هكذا، إنتقل جنبلاط خلال أشهر إلى قيادة قوى الرابع عشر من آذار، وإلى خوض معاركها السياسية التي خفتت في السنوات الأخيرة، ضدّ دمشق وطهران و"حزب الله".
يهمس كُثر من المطلعين على خبايا الحياة السياسية اللبنانية، أن أصل الخلاف بين جنبلاط و"حزب الله" لم يكن معمل عين دارة ولا خطاب مزارع شبعا، بل هو عمل جنبلاط الحثيث على "التحريض" على الدور الإيراني في لبنان من خلال لقاءاته في موسكو، وحراكه السياسي مع الديبلوماسيين الإوروبيين والأميركيين في لبنان، ما يعني أن رئيس الحزب "الإشتراكي" أخذ على عاتقه حمل راية "ثورة الـ2005" مجدداً، آملاً في الحصول على تضامن الحلفاء...