ليس "تفصيلاً" أن يحطّ الرئيس المكلَّف تشكيل الحكومة سعد الحريري في إسطنبول، بعد "إجازةٍ" وُصِفت بـ "الشخصيّة" وتزامنت مع عطلة الأعياد، عبر فيها المحيطات، متنقّلاً بين الإمارات العربية المتّحدة، وفرنسا التي لا يزال يصرّ على العمل بوحي مبادرتها، على رغم كلّ المعوّقات.
ومع أنّ زيارة الحريري المفاجئة وغير المُعلَنة إلى إسطنبول خضعت للكثير من القيل والقال، وأحاطت بها الالتباسات والتكهّنات والتأويلات من كلّ حدبٍ وصوب، فإنّها جاءت بحسب ما يرى الكثير من المراقبين، تتويجاً للمتغيّرات الإقليميّة التي تشهدها المنطقة، والتي كانت المصالحة الخليجية الأسبوع الماضي أبرز محطّاتها.
وتبقى الرسالة الرئيسيّة من جولة الحريري الخارجيّة، والتي جمعت المتناقضات، وفق ما يقول مقرّبون منه ومؤيّدون لخطّه السياسيّ، أنّها دحضت "الكذبة الرائجة" عن وجود "فيتو" مفروض عليه، من جانب هذه الدولة أو تلك، بدليل أنّه لا يزال قادراً على حجز موقعٍ وحيثيّة في معظم العواصم، مستنداً لشبكة علاقات متينة نجح في بلورتها.
لا فيتو!
صحيحٌ أنّ الغموض أحاط بزيارة الحريري إلى إسطنبول، وبالخلفيّات والدوافع الكامنة خلفها، والتي لا تزال حتى الآن غير واضحة المعالم بصورةٍ كاملةٍ، بين من قال إنّها جاءت لتكرّس "انقلاباً" لا يبدو واقعياً على "رعاته" في الخليج، ومن اعتبرها "منسَّقة" مع هؤلاء بما يخدم "أجندتهم" في المنطقة، وفي الوقت نفسه، يمكن توظيفها لصالح لبنان.
لكنّ الأصحّ من ذلك، بحسب ما يقول مقرّبون من تيار "المستقبل"، أنّ رئيس الحكومة المكلَّف أثبت للقاصي والداني أنّه لا يزال قادراً على الاتكاء على شبكة علاقات خارجيّة مميّزة نسجها منذ انخراطه في العمل السياسيّ، وطوّرها على مرّ السنوات الماضية، بما يمكّنه أن يوظّفها بعد تشكيله الحكومة للشروع في مهمّة "الإنقاذ" التي لا يمكن للبنانيّين التصدّي لها من دون مساندة ودعم الدول الشقيقة والصديقة.
ويرى المحسوبون على "المستقبل" أنّ الأهمّ من هذا وذاك، أنّ الحريري أكّد المؤكّد لجهة أنّ كلّ ما يُحكى بين الفينة والأخرى، عن "فيتو" عليه من هذه الدولة أو تلك، ورفضٍ مطلَق لأيّ حكومةٍ يرأسها، كما يردّد بعض خصومه ومعارضيه، من باب "الحرتقة"، ليس دقيقاً، ولو أنّ هؤلاء الخصوم يسجّلون عليه أنّ زياراته الخليجية الأخيرة خلت من أيّ لقاءٍ "دسم" يمكن الاتّكاء عليه لإثبات مثل هذا الرأي.
الداخل أولاً!
وبالعودة إلى الداخل، يبدو أنّ لجولة الحريري الخارجيّة مقاربة مختلفة بالشكل والمضمون لدى خصومه، ولا سيما "التيار الوطني الحر"، الذي تستهجن أوساطه الإصرار على ما تعتبره "إقحاماً للخارج" في الاستحقاقات الداخلية، علماً أنّ التشاور ينبغي أن يكون محصوراً مع رئيس الجمهورية لتأليف الحكومة، هذا إذا كانت الحكومة على "أجندة" زيارات الحريري.
وتشير هذه الأوساط إلى أنّ الحريري أخذ "إجازة غير مستحقّة" في الوقت "الضائع"، في وقتٍ كان الأوْلى به تكثيف اتصالاته مع رئيس الجمهورية لبتّ الملفّ الحكوميّ الذي لم يعد يتحمّل "ترف" الانتظار أكثر، في ظلّ المأزق المتفاقم الذي تعيشه البلاد على مختلف المستويات، والذي ينبغي على الحكومة العتيدة أن تصبّ جلّ اهتمامها على كيفية تجاوزه بأقلّ الأضرار.
وترفض أوساط "التيار" أيّ "رهانات" على الخارج لتغيير المعادلة الداخلية، أو لمحاولة فرض أيّ "أمر واقع"، مذكّرةً بأنّ رئيس الجمهورية ليس من النوع الذي يقبل أيّ إملاءاتٍ، وهو صاحب مقولة أنّ "العالم يستطيع أن يسحقه لكنه لن يأخذ توقيعه"، وهي تدعو الحريري إلى العمل بمقتضى شعاره الشهير "لبنان أولاً"، بدل طلب "وساطة" هذا الطرف الإقليمي أو ذاك.
بالنسبة إلى "التيار"، المعادلة أكثر من بسيطة. على الرئيس المكلَّف الاعتراف بأنّ رئيس الجمهورية هو "شريكٌ دستوريّ كامل" في تأليف الحكومة، وبالتالي المبادرة للتشاور معه لبتّ التشكيلة وفقاً لمقتضيات الدستور. لكنّ هذه المعادلة "البسيطة" لا تعني سوى شيءٍ واحدٍ للناس، فالأزمة لا تزال عالقة عند "الشكليات"، ولا تقدّم يبدو مُحرَزًا.