منذ نكبتنا المالية، يتفوّق خبر الدولار ومساره في لبنان على ما عداه، حاصدًا المراتب الأولى في قائمة الأخبار الأكثر قراءة، كيف لا والعملة الخضراء تتحكّم بمفاصل حياتنا وعيشنا، كوننا نحيا في بلد اقتصاده ريعي مدولر. آخر أخبار الدولار، القرار الذي أعلنه المجلس المركزي لمصرف لبنان بإلزام المصارف بتسديد 400 $ (Fresh dollars) اضافة الى ما يوازيها بالليرة اللبنانية، للحسابات التي كانت قائمة بتاريخ تشرين الاول من سنة 2019 وكما أصبحت هذه الحسابات في آذار، وما أعقبه من بياني جمعية المصارف، الأول الرافض والثاني المتجاوب.
قرار "المركزي"دفع دولار للمودعين ممن استوفوا شروطا محدّدة، وإن وصفه البعض بهندسة مالية جديدة بتوقيع حاكم المركزي رياض سلامة، فهذا الوصف لا يلغي إيجابياته، ولو أنّ العبرة تبقى في التطبيق. من مفاعيله الإيجابية أنّ الدولار المفقود في المصارف منذ أكثر من عام عاد ليظهر من جديد، وسيصل بنهاية المطاف إلى المودع. بطبيعة الحال لا نتحدث هنا عن إنصاف أو عدالة، بين مودعين حوّلوا ملياراتهم خارج البلد وآخرين حُرموا من دولار واحد، وسيأخذون مالهم بالقطّارة. لكن في خضم المعركة السياسية الشرسة بين البرتقالي والأزرق، وانسداد الأفق الحكومي، وتأخّر صدور قانون "الكابيتال كونترول"، يبدو أنّه الخبر الوحيد الذي" يُطعم خبًزا"، ولو من كيس المودعين أنفسهم.
قبل حوالي ساعة من إعلان قرار المركزي، كتب الخبير المالي والمصرفي أنطوان سعادة على صفحته على مواقع التواصل الإجتماعي ناسبًا ما يلي إلى مصادر مصرفية "خلال ساعات سيتم اصدار تعميم متعلق بـ 400 دولار شهريا مع 400 دولار وفق منصة صيرفة، يجري العمل بالتعميم بدءًا من واحد تموز"، بالفعل صدر القرار.
وفي معلومات سعادة التي كشفها لـ "لبنان 24" أنّ الـ 400 $ فراش تُموّل مناصفة بين مصرف لبنان والمصارف، أي بنسبة 200$ من الفريقين، وقد سعت المصارف جاهدة كي لا تتجاوز حصّتها من التمويل 150$ لكن المركزي أصرّ على موقفه، خصوصًا أنّ هذه النسبة ستعود من المركزي إلى المصارف من خلال عمليات معينة، بحيث ستحصل على مبلغ مماثل من خلال توظيفاتها الإلزامية. أمّا الـ 400 $ التي ستعطى للعميل بالليرة اللبنانية وفق سعر صرف منصّة صيرفة أي 12 ألف ليرة، فلن تعطى نقدًا، وفق ما كشفه سعادة، تفاديًا لطبع المزيد من العملة الوطنية، بل من خلال بطاقة تدخل إلى حساب العميل، ويُمكن له أن يستخدمها للتبضّع وشراء حاجياته. ويستفيد من قرار المركزي المودعون سواء كانوا كبارًا أم صغارًا بالقيمة نفسها.
حالة من الإرباك على جبهة المصارف بعد إعلان المركزي، تُرجمت ببيانين متناقضين، في الأول ردّت جمعية المصارف لتؤكّد أنّ "المصارف غير قادرة على توفير أي مبالغ نقدية بالعملة الاجنبية مهما تدنت قيمتها"،وفي الثاني تجاوبت مع قرار "المركزي" وأبدت استعدادها "لبحث مندرجات التعميم بإيجابية تامة"، وبرّرت هذا الضياع بأنّ الكتاب الأول كان قد سبق بيان مصرف لبنان.
بأيّ حال ليس بمقدور المصارف أن ترفض تنفيذ القرار الذي سيُستتبع بتعميم، ليس لأنّ الغضب الشعبي سيتفجّر بوجهها فحسب، بل أيضًا لأّن مصرف لبنان، لا يصدر قرارًا من دون درس آلياته التنفيذية ومصادر التمويل وقدرة المصارف على الإستجابة، وفق مقاربة الخبير المالي والمصرفي ومستشار اتحاد المصارف العربية بهيج الخطيب في حديث لـ "لبنان 24"، والمصارف قادرة على تأمين الأموال، يضيف الخطيب، لاسيّما أنّ قرار خفض التوظيفات الإلزامية 1% من شأنه أن يؤمّن حوالي مليار ونصف مليار دولار على مدى ثلاث سنوات، بمعدل نصف مليار دولار كلّ سنة، وخلال الفترة الفاصلة عن بدء تنفيذ القرار، تكون المصارف قد رتّبت أمورها، خصوصًا أنّ هناك دولارات تدخل إلى المصارف ولو بنسب ضئيلة، وفي حال وُجدت مصارف غير قادرة بالفعل على الدفع، يمكن معالجة وضعها وإيجاد حلول والتفاوض بشأنها بشكل منفرد.
في عملية حسابية لتكلفة تنفيذ القرار، يوضح الخطيب أنّ 400 $ (Fresh dollars) ستكّلف 320 مليون دولار لتغطية 800 ألف حساب، والعملية برمّتها ستكلف 640 مليون دولار لتغطية 800 دولار لكل عميل، وهو مبلغ أقل من نصف نسبة الـ 1% التي سيتم خفضها من التوظيفات الإلزامية في مصرف لبنان من 15 ملياردولار، أي ما قيمته 15% من الودائع بالدولار، إلى 14 مليار دولار، أي أنّ هناك مليار تمّ خفضه من الإحتياطي، سيعيد 1% إلى المصارف، ومنها إلى المودعين من التوظيفات الإلزامية.
بطبيعة الحال قرار المركزي مجحفٌ بحقّ صغار المودعين الذين لا يمتلكون حسابات بالدولار، أو أولئك الذين حوّلوا حساباتهم إلى دولار بعد تشرين الثاني 2019، فهؤلاء كانوا ينامون ويصحون على عبارة "الليرة بخير"، علمًا أنّ بعضهم لاسيّما المغتربين منهم، أدخل أمواله بالدولار إلى المصارف، ثمّ حوّلها إلى ليرة لحصوله على فائدة أكبر.