وفق ما يتناهى من معلومات مستقاة من أجواء الأيام الماضية، فإن التفاؤل المفرط بإمكانية تشكيل الحكومة بالسرعة التي تتطلبها خطورة الأوضاع الإقتصادية والمالية والمعيشية قد لا يكون في محله. ونعود دائمًا إلى مقولة الرئيس نبيه بري "لا تقول فول تا يصير بالمكيول"، وهو الذي غادر القصر الجمهوري على أثر تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة مكتفيًا بجملة قصيرة، حيث قال "العبرة بالتأليف"، وهي جملة إختصرت ما يمكن إنتظاره في الأيام أو الأسابيع الآتية.
فالتأليف ليس بالسهولة التي يتصورّها البعض، على رغم الإيجابية التي يبديها الرئيس ميقاتي، من دون أن يعني أنه بهذه الإيجابية يمكن القبول بما يُعرض عليه من صيغ قد لا تتناسب مع ما يعتقده صحيحًا أو ما هو أقرب إلى الصحّ من أي شيء آخر. فالإيجابية تتطلب إيجابية متبادلة، لأن رقصة "التانغو" الحكومية تحتاج إلى راقصين إثنين حتى تكتمل المشهدية المسرحية بمعناها المجازي. فإذا تخّلف أي من الراقصين عن أداء دوره الطبيعي "يتفركش" الراقصان، ويختلط الحابل بالنابل، وتدّب الفوضى، وينتهي الحفل بمشهد درامي. وقد تكون تجربة الرئيس سعد الحريري في مفاوضاته الشاقة مع "الثنائي العوني" عبرة، من دون أن يعني ذلك بالطبع التسليم بالأمر الواقع ورفع "العشرة" عند أول إمتحان.
صحيح أن مسألة التأليف "ليست إختراعًا للبارود" كما سبق أن صرّح به الرئيس ميشال عون قبل التكليف، هذا إذا إفترضنا أن ثمة نية بتسهيل التأليف وعدم وضع شروط تعجيزية من الصعب القبول بها، وبالتالي يجب على رئيس الجمهورية أن يفرض طوقًا رقابيًا على المحيطين به والمقربين منه، وأن يضبط إيقاع بعض التصريحات النارية لبعض الذين لا يزالون يعتبرون أن العهد لا يزال في أول الطريق، وآخر هذه التصريحات ما أدلى به مستشاره الرئاسي الوزير السابق بيار رفول، وهو تصريح أقل ما يُقال فيه أنه جاء في الوقت الغلط، وهو قد أخطأ في التقدير، ويمكن أن يُقال له: "يا حبوب غلطان بالنمرة".
فإذا أراد رئيس الجمهورية أن يصل حقيقة إلى حكومة متجانسة، وهذا ما هو ظاهر حتى الآن، فعليه أن يصم آذانه عن كل الكلام المتطاير من هنا وهناك، حتى تستقيم الأمور وترسو على بر من الأمان، لأن الرئيس المكّلف لم يقبل المهمة التي ألقيت عليه، إلا لأن لديه النية والإرادة لإنتشال البلد من عمق الهوة السحيقة، وذلك بالتعاون مع الجميع، وبالأخصّ مع رئيس الجمهورية، الذي لا يريد أن ينتهي عهده بمزيد من خيبات الأمل.
طريق التأليف لا تزال في بداية البدايات. المطلوب سرعة وليس تسرّعًا. إنها قناعة راسخة لدى الجميع، وبالأخصّ لدى الرئيس المكّلف. الخطوات المتأنية مطلوبة اليوم أكثر من أي يوم مضى. ومطلوب أيضًا "تبريد" بعض الرؤوس الحامية، التي لا يزال أصحابها يعتقدون أنهم لا يزالون يعيشون في زمن قد مضى، وأن البطولات "الدونكيشوتية" لم تعد تفيد الذين أمضوا ردحًا من الزمن يحاربون طواحين الهواء، فلا كان قمح ولا كان طحين، بل مجرد جعجعة ليس إلاّ.