بالرغم من كل التسريبات السلبية حول الملف الحكومي الا ان المسار العام يبقى ايجابياً، ولكن وفي ظل هذه الايجابية التي تطبع عملية الحراك الحكومي، ثمة ما بات وصفه بالاستهتار من قِبل بعض القوى السياسية امراً واقعاً عالقاً بين الشروط والشروط المضادة والشعارات الطائفية ومنطق المحاصصة والمناكفات، إذ يظن البعض ان كل هذه التوترات من شأنها أن تلعب دورا اساسيا في شد العصب الشعبي، وما بين "حقوق المسيحيين" و"حصة الاحزاب" و"معركة الصلاحيات" وغيرها من الشعارات المرفوعة، معركة اكبر تنتصر فيها القوى الداخلية او تنهزم في صناديق الاقتراع.
مما لا شك فيه أن التمسّك بالشعارات و"الزكزكات" السياسية بين حين وآخر ما هو الا ضرب حماقة في ظلّ الواقع المرير الذي يعيشه اللبنانيون سواء على المستوى المعيشي نتيجة الضغوطات الاقتصادية والمالية القاسية، او على المستوى النفسي بفعل التراكمات التي باتت تهدّد مستقبلهم في البلاد.
نعم، إنه بصيص الأمل الذي بدأ يخفت بريقه تدريجياً حتى وصل الى مرحلة التلاشي، وصار "اخر هم" الغالبية العظمى من الشعب جملة المطالب الطائفية والحزبية التي لا طائل منها، ولعلّ ما قام به "حزب الله" وصرّح عنه أمينه العام السيّد حسن نصر الله في خطابه أمس وردود الفعل حوله، أبرز وأبلغ دليل على ان الناس باتت حتماً في مكان آخر.
قد يكون "حزب الله" من اكثر الاحزاب الواضحة والعلنية في مواقفها السياسية، والاكثر "خشونة" على حدّ سواء، ما أدى الى خلق شرخ كبير بينه وبين العديد من شرائح المجتمع اللبناني، لكن ما إن أعلن السيد نصر الله عن خطوة الحزب الجدية باتجاه حل ازمة المحروقات من خلال استيراد مادتي المازوت و"البنزين" من إيران حتى انتشر في بعض الشارع اللبناني خطاب مختلف عمّا كان عليه في السنوات الماضية وحتى الأمس القريب، ولعلّ ما صرّح به عضو كتلة "الجمهورية القوية" النائب سيزار المعلوف بأن إيران ليست عدوا مصراً على عدم لوم "حزب الله" على موقفه ومعاتباً الدول الصديقة متسائلا "اين هي من مساندة الشعب اللبناني في هذه الظروف" دليل اكبر على تبدّل النبرة الشعبية في ظل الخنقة الحاصلة.
ما قاله معلوف قاله أيضاً كثر من اللبنانيين أمس، ومن بينهم خصوم لحزب الله الذين وجدوا ان خطوة الحزب تبدو مقبولة ويجب تشجيعها، حتى أنهم انتقدوا الحملات ضدّ الحزب الامر الذي بدا واضحاً وصادماً على شبكات التواصل الاجتماعي كما الحال في الشارع اللبناني. ففي طرابلس، على سبيل المثال، استصرحت بعض وسائل الاعلام عدداً من المواطنين الذين أكدوا ان ما قام به الحزب هو موقف يُحسب له في هذه الظروف الصعبة التي تمر على البلاد، معتبرين ان الخلافات السياسية يجب أن توضع جانباً في حالة الطوارىء، شاكرين السيد نصر الله شخصياً وبرسالة موجهة وصريحة، الامر الذي كان مستحيلاً في السنوات الفائتة.
وبعيدا عن الغايات السياسية لحزب الله والذي من حقه كحزب سياسي أن يكون له اهداف وتطلعات وتوقيتات في كل خطوة يقوم بها، اذ قد يكون الاستقطاب الشعبي احد أهم غاياته في هذه المرحلة، غير ان حجم التقبّل لموقفه كان عاملاً أساسياً في استعادة الحراك الاميركي من خلال السفيرة الاميركية دوروثي شيا التي اندفعت نحو خطوات موازية بهدف سلب "حزب الله" دور البطولة في عملية الانقاذ.
من كل ذلك، يتبيّن أن الشعب اللبناني لم يعد يكترث للتجاذبات السياسية المبنية على الطائفية و"زعيمي اقوى من زعيمك"، بل بات شغله الشاغل تشكيل حكومة "حلول" تضع لبنان على سكّة السلامة وتخفض من سعر صرف الدولار وتؤمن الغذاء والدواء والمحروقات، والا فعلى خصوم حزب الله السياسيين ان يتوقعوا انقلاباً شعبياً تجاهه في حال استكمل خطواته واتجه لتأمين كميات من الادوية الضرورية وملء الفراغ في السوق اللبناني وبسعر أقل، وكيف الحال اذا اتجه ايضاً الى تأمين المواد الغذائية؟
كل هذا يحصل لا لشيء سوى أن السلطة الفاسدة استطاعت تدمير البلد وإفقار شعبه ورُب ضارة نافعة ان تجعل الخلافات السياسية جانباً ليبقى التنافس الانتخابي بين القوى هو تنافس على الوضع المعيشي وتأمين حقوق وحاجات اللبنانيين.