مع اعتذار الرئيس سعد الحريري عن عدم تشكيل الحكومة في منتصف حزيران الماضي، كانت مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري الانقاذية قد انتهت رسمياً. وكما هو معلوم، فإن الهدف من تلك المبادرة السياسية هو الوصول إلى حكومة قادرة وفاعلة تساهم في انتشال البلاد من الانهيار. كذلك، فإنه خلال تلك المبادرة، لم يرفع بري سقوف التحدّي كما أنه خاطب الأفرقاء المتنازعين (الحريري والنائب جبران باسيل) على أساس قاعدة التسوية، إلا أن الحلول لم تُولد رغم مختلف المحاولات.
ومنذ ذلك الوقت وحتى بعد تكليف الرئيس نجيب ميقاتي لتشكيل الحكومة قبل نحو شهر من الآن، كان بري قد وضع نفسه في موقع المُراقب أولاً، كما أنه طرح ما يريده في الحكومة أيضاً ولكن وفق القواعد المتعارف عليها. فمن خلال تمسّكه بمدير العمليات المالية في مصرف لبنان يوسف خليل لتولي وزارة المالية، كان بري يؤكد أن زمن الضغط المتمادي وفرض الشروط قد ولّى، ولا يمكن لأي جهة سياسية أن تمارس دور الوصي على القرار الحكومي. وإضافة إلى ذلك، فإنّ بري، ومع تمسكه بخليل، لم يرَ مشكلة في أي حل يساهم في ولادة الحكومة، إلا أن الفارق هنا أنه سيتلقف الحل ولن يكون صانعه كما كان يحصلُ خلال سعي الحريري لتشكيل الحكومة.
وفي هذه النقطة، أراد بري أن ينأى بنفسه عن التدخل المباشر خصوصاً عندما رأى أن مبادرته الأولى لم تصل إلى هدفها. وفي الواقع، فإن أوساط برّي ترى أن ما حصل هو "إفشال" وليس عدم نجاح، وتؤكد أن بري طرح كل الحلول لكن فريق رئيس الجمهورية ميشال عون كان يطرح العقبات تلو العقبات.
ثقة بميقاتي
ووسط كل هذا المسار، فإن بري "المُراقب" قد ينتفضُ عندما يرى أن الأمور متجهة نحو الأسوأ، لكن بنظره الآن أن "الأمور سالكة نسبياً". أما الأمر الأهم فهو أن عدم تدخل برّي في المسار الحكومي مرده أنه يثق بشخص ميقاتي لإدارة الحلول وطرحها وتذليل العقبات وتدوير الزوايا. وهنا، فإن الأخير (أي ميقاتي) يدرِكُ أن بري لا يفرض شروطاً إلى حد العرقلة، كما أنه من حق رئيس مجلس النواب أن يطرح الأسماء التي يراها مناسبة كون الواقع السياسي في لبنان يفرض ذلك.
وإضافة إلى كل ذلك، فإن عدم تدخل بري في مسار التشكيل لا يعني أنه ترك ميقاتي وحيداً يُجابه الشروط. وفي الحقيقة، فإن الطرفين ينسقان الخطوات وهناك اجماعٌ على التأليف وكسرِ العُقد والأهداف التي تكرّس أي استئثارٍ بالقرار الحكومي. كذلك، فإن بري حسم قراره بعدم ترك أي رئيس حكومة وحيداً خصوصاً ميقاتي والحريري، باعتبار أن التوازنات في البلد تؤكد على أهمية هذه الخطوة، كما أنه لدى بري قناعة بأن المس بحقوق الطائفة السنية في التمثيل يعني انطلاقة نحو الخراب وضرب اتفاق الطائف.
ماذا عن باسيل؟
وحقاً، فإن مُهادنة بري الحالية لا تعني أن الأخير "يُساير" باسيل أو عون، فالحرب السياسية بين عين التينة وبعبدا قائمة ومستمرة. وحالياً، فإن بري يُمارس سياسة ضبط النفس قليلاً في مجابهته لجبهة عون إفساحاً للمجال أمام تشكيل حكومة أولاً وتنفيس الأوضاع ثانياً، وهناك توافق ضمني مع "حزب الله" على هذا الأمر.
غير أن بري لن يرضى بفتح النيران عليه، حتى أنه لن يقبل بالتهديدات المستمرة، وما حصل في جلسة مجلس النواب الأخيرة خلال سجاله مع باسيل، كان خير دليل على ذلك. فحينها، هدّد باسيل بالاستقالة من مجلس النواب، فجاء الرد سريعاً من بري بأن من يريد أن يستقيل فليقم بذلك ولا يُسمح لأي أحد بتهديد مجلس النواب.
واليوم، فإن لدى بري شروطاً أساسية لا يتنازل عنها أبداً، وهي ترتبط بحقائق ثابتة، وذلك رغم الحملات التي تُمارس من فريق باسيل ضدّه وضد فريقه السياسي. وفعلياً، فإن تلك الشروط تتلخص في التالي:
1- عدم إفساح المجال أمام أي طرف بالاستئثار بثلث مُعطل ضمن الحكومة التي يجب تشكيلها بأسرع وقت
2- عدم تشكيل حكومة تشكل أرضية خصبة لباسيل للتحكم بالانتخابات النيابية وإدارة مرحلة ما بعد عهد عون
3- التأكيد على عدم المس بصلاحيات رئاسة الحكومة الدستورية، وعدم إضعاف ميقاتي أو الحريري
4- عدم السماح للقوى الأخرى بضرب التوازنات السياسية خصوصاً عندما يتعلق الأمرُ بالخصوصية الطائفية والمناطقية.
وإزاء كل ذلك، فإنّ الهدف اليوم بالنسبة لبرّي هو الحفاظ على مختلف التوازنات القائمة وإدارة الأزمة الحالية بطريقة لا تؤدي إلى تفتيت المجتمع اللبناني، لأن المشاكل بدأت تظهر واضحة في أوساط الطائفة الشيعية، وهو الأمر الذي لا يقبله بري ولا يسمح بتفاقمه.