لا يختلف اثنان أبداً على مدى تأثير الحرب الرّوسية - الأوكرانية على الإستقرار العالميّ وتحديداً على الدول الصغيرة مثل لبنان. فعلياً، فإنّ الدولة الواقعة على حوض البحر الأبيض المتوسط، تعتبرُ واحدة من البلدان التي تواجهُ انعكاسات الحرب الروسية - الأوكرانية على كافة المستويات، وبشكل خاص على الصّعيد الاقتصادي.
ورغم أنّ المساعي مستمرّة لتجنيب لبنان تداعيات اقتصادية "كارثية" ناجمة عن تلك الحرب، فإنّ الأنظار باتت تتجهُ إلى العلاقات الروسية - اللبنانية على المدى القريب وأيضاً البعيد، في ظلّ حديث عن تمدّد روسي جديد إلى المنطقة يُنذر بتغيير التوازنات الإقليمية والدوليّة. وهنا، يُطرح السؤال الأساسي: أين هو موقع لبنان من روسيا وسط الصراع القائم؟
مع بداية الغزو الرّوسي لأوكرانيا، كانت وزارة الخارجية اللبنانية "سبّاقة" في اتخاذ موقف واضح "يُعارض الغزو" وذلك لاعتبارات إنسانيّة بحتة بالدرجة الأولى. حتماً، فإن موقف الخارجيّة أثار استياءً لدى السفارة الرّوسية في بيروت، لكن الأخيرة لم تُبادر إلى تصعيد الموقف، فاكتفت بالتعبير عن الاستياء والامتعاض. بعد ذلك، تبدّدت هذه الأمور نوعاً ما بعد زيارة السفير الروسي ألكسندر روداكوف إلى الخارجية قبل أيام قليلة، وهو أمرٌ يؤكد أن الأمورَ قد سارت باتجاه سليم عقب القليل من الامتعاض المندرج تحت إطار الحفاظ على القيمة الإنسانية بالدرجة الأولى ونبذ الاقتتال.
في السياق، تقول مصادر سياسية متابعة لـ"لبنان24" إنّ "روسيا تتفهم واقع لبنان وموقعه ولا يمكنها النظرُ إليه من باب جهة مخالفة لها أو معارضة عندما يتعلق الأمر بالمسألة الأوكرانية". وأضافت: "بالنسبة لروسيا، فإن لبنان دولة لا يمكنها الوقوف سوى في الصف الذي تنتمي إليه، ولهذا لم تكن هناك حدة في التعاطي الروسي مع لبنان لأن وضعه معروف ولا يمكنه استعداء أي طرف".
في الواقع، فإن لبنان يؤكد دوماً على أهمية متانة علاقته بالدول الأخرى، وهذا ما يشدّد عليه أيضاً عندما يتعلق الأمر بروسيا. ومن دون أي منازع، لا نيّة ولا قدرة لدى لبنان أبداً في الدخول بصراع مع أي دولة كانت، لاسيما أنّ الظروف الحالية التي تعيشها تحتاجُ إلى التفاف دولي حول بيروت لمساعدتها وتسهيل نهوضها من الانهيار المالي والاقتصادي الذي تعيشه.
من جهته، يقول الأستاذ الجامعي والكاتب راغب جابر لـ"لبنان24" إنّ "العلاقات كانت دائماً جيدة بين بيروت وموسكو وذلك منذ عهد الانفتاح الكبير أيام الرئيس الشهيد رفيق الحريري"، وأضاف: "روسيا على علاقات طيبة مع مختلف الأطراف اللبنانية، إلا أنه بالنسبة لبيروت فإنّ الأساس دائماً يرتبط بعلاقات جيّدة ومتينة مع الدول الغربيّة التي يحتاج لبنان إليها بشكل مستمر خصوصاً وسط الانهيار المالي الذي يعيشه".
ولفت جابر إلى أنّ "الجهات المانحة جلّها غربية، وبالتالي لا يمكن للبنان الوقوف في وجه إرادة المجتمع الدولي لأنه بحاجة إليه". وأردف: "عندما يتعلق الأمرُ بلبنان، فإنّ روسيا لا تتدخل بشؤونه بقدر ما تعلن تأييداً لانتظام الحياة السياسية فيه على سبيل المثال، في حين أن المنافسة مع الغرب قائمة إذ أن لكل طرف مصالحه في لبنان وسوريا وباقي الدول، وهذا موضوع معروف ومفروغ من أمره".
في المقابل، يقول أستاذ العلاقات الدوليّة خالد العزي لـ"لبنان24" إن "لبنان ليس منطقة نفوذ روسي، إذ ليس لموسكو أي تأثير فيه كما أنه لا مصالح مُربحة لها هنا ومن غير المسموح أن يكون هذا الأمر قائماً بالنسبة للمعادلة الدولية".
ولفت العزي إلى أنّ "لبنان يعتبرُ في قلب محور عربي في حين أنّ الولايات المتحدة الأميركية هي الأقوى هنا وفي المنطقة، وهي التي تفرض شروطها وليس روسيا". وأضاف: "في الواقع، فإن سوريا لم تستطع تلبية مصالح روسيا رغم الوجود العسكري للأخيرة هناك وتحديداً في طرطوس. كذلك، فإنّ موسكو لم تستطع توظيف الوجود العسكري المرتبط بها بنصرٍ سياسي".
واعتبر العزي أن قدرة روسيا على التحكم والسيطرة محصورة، وأردف: "موسكو لم تستطع خرق قانون قيصر في سوريا رغم الوجود العسكري، وما من جهة ترغب في مواجهة عقوبات في حال أرادت التعامل مع الوجود الروسي في سوريا".
وعن مستقبل العلاقات اللبنانية - الروسية، يرى العزي أنّ "لدى روسيا بعض المصالح التي تحاول التقرب عبرها من لبنان خصوصاً من بوابة التنقيب عن النفط، إلا أن ذلك لم يثمر عن نتائج إيجابية باعتبار أن ذلك يحتاج إلى قدرات ليست موجودة بحوزة روسيا مقارنة مع الدول الأخرى".
واعتبر العزي أنّ "روسيا لا يمكن الدخول إلى منطقة تعتبرُ ضمن محور أميركي ويؤثر عليها قرارٌ سعودي"، مشيراً إلى أن "لبنان عضو مؤسس في المجموعة الدولية والعربية، وهو يدافع عن الديمقراطية والحرية"، وأضاف: "لبنان يجب أن يتبنى دائماً القيم الانسانية في مواقفه أينما كان، وبيان الخارجية الروسية بشأن الأزمة الأوكرانية كان طبيعياً وجاء بحكم أن لبنان لا يمكن أن ينفي المبادئ الداعية إلى احترام حقوق الانسان ورفض الاحتلال والغزو. إنّ وضوح لبنان هو الأساس وهذا ما هو مطلوب دائماً".
حجم تأثير روسيا على لبنان
فعلياً، فإنّ روسيا لا يمكن أن تؤثر على لبنان بشكل كبير، لأسباب عديدة أولها أن لبنان يتعامل إنمائياً ومالياً وخدماتياً مع دول الغرب والولايات المتحدة، في حين أن موسكو تقدّم بعض الخدمات المحدودة للبنان، علماً أن الصناديق السيادية موجودة في أوروبا وليست في روسيا، ما يشير إلى أن تأثير الأخيرة على انتعاشة لبنان المالية غير قائم، والأساس عند الدول الغربية.
مع هذا، فإنّه بإمكان موسكو أن تستغلّ وجودها العسكري في سوريا للتعاطي مع لبنان كعنصرٍ فاعلٍ في المنطقة، لكن هذا الأمر يحتاجُ إلى موافقة أميركية بالدرجة الأولى وذلك تجنباً لأي صدام. وهنا، يبدو جلياً بشكل أساسي أن كل الملفات المرتبطة بلبنان لا تتم إلا بإشراف أميركي، مثل استجرار الغاز المصري إلى لبنان ونقل الكهرباء إليه من الأردن.
وعلى صعيد السياسة الداخلية، فإنّ روسيا لم تؤسس لنفسها أي وجود مؤثر على الساحة المحليّة خصوصاً عندما يتعلق الأمر بقرارات سياسيّة كبرى أو بتوجّهات أساسية للدولة. وأكبر دليل على ذلك هو أنّ روسيا جمعت سياسيين متخاصمين قبل فترة من دون أن يكون لها أي تأثير على قراراتهم وتحديداً "حزب الله" الذي لا يعارض وجود روسيا في سوريا، كما أنه لا يُمانع من تكريس دور لموسكو في عملية التنقيب عن الغاز والنفط في لبنان.
في المحصّلة، فإنّ الأساس هو أن يحفظ لبنان نفسه من تداعيات أي حرب أو صراعٍ بين أطراف دولية لأن الانعكاسات ستكون كبيرة، والسعي يجب أن يكون دائماً لتذليل تلك الانعكاسات والتحكم بها وسط الانهيار الاقتصادي والمالي. أما في ما خصّ روسيا، فإن موقفها من لبنان لن يتغيّر ولن يكون هناك تصعيدٌ مقبل ضده أو محاسبة بحسب ما يتم الترويج له، لأن واقع بيروت معروفٌ بالنسبة لموسكو، وهذا الأمرُ كفيل بلجمِ أي استغلال يقود لتدهور العلاقات في المستقبل القريب.