من دون أدنى شك، تصدّر ملف انتخابات رئاسة الجمهوريّة في الوقت الرّاهن الحديث السياسيّ العام، فكرّس الأفرقاءُ السياسيون اهتمامهم بذلك الاستحقاق الذي بات قريباً من الناحية الظرفية، لكنّه قد يكون بعيداً من ناحية اتمامه فعلياً.
وبمنأى عن المواقف المتفاوتة بشأن الاستحقاق الرئاسي، تتسلّط الأضواء مُجدداً باتجاه "حزب الله" الذي بدا مؤخراً وكأنه بدأ يدخلُ في تفاصيل الملف الرئاسي بأسلوبٍ تدريجي.
فمن الناحية الشكلية، لم يكشف "حزب الله" بعدُ عن اهتمامٍ واضح بملف رئاسة الجمهورية، لكن الأدلّة على ذلك عديدة، وأبرزها ابتعادُ الحزب شيئاً فشيئاً عن التمسّك بالملف الحكوميّ الذي تصدّر سُلّم أولوياته قبل فترة قصيرة. وهنا، فإن ما يتبين هو أنّ الحزبَ أراد أن يستعجل الالتحاق بالمركب الرئاسيّ في وقتٍ باكر، بعدما باتت الإشارات الدوليّة حاسمة على هذا الصعيد. فبالنسبة للفرنسيين، الاستحقاق الرئاسيّ يحظى بأولوية وكذلك بالنسبة للأميركيين، وقد وصلت أصداءُ هذا الاهتمام مباشرة إلى مختلف الأحزاب السياسيّة.
ورغم المَسار التدريجي الذي يسيرُ عليه "حزب الله" بشأن ملف رئاسة الجمهورية، إلا أنه حتى الآن لم يفتح "بازار الأسماء"، والدليل الأكبر على ذلك هو أنه ما من إشاراتٍ واضحة صدرت من حارة حريك بهذا الشأن. وعليه، فإن كلّ ما يُحكى عن وعودٍ لبعض الشخصيات هو كلامٌ لا يستندُ لوقائع دقيقة، لكن ما يُمكن قوله هو أن الأمر الحاسم بالنسبة للحزب هو اختيار شخصيةٍ تدورُ في فلكه ولا تخضع لشروط الأطراف المُناوئة له داخلياً.
ماذا عن علاقة "حزب الله" بقائد الجيش؟
وكما بات معلوماً، أضحى قائد الجيش العماد جوزاف عون واحداً من الشخصيات المطروحة بشكلٍ جدّي لرئاسة الجمهوريّة، وهو أمرٌ لم يعلّق "حزب الله" عليه حتى الآن بشكل صريح وعلني.
من الناحية العملية، قد لا يُعتبر عون شخصية مُستفزّة بالنسبة للحزب إذا ما تمت مقارنته بآخرين يتم اعتبار ترشحيهم لرئاسة الجمهورية بمثابة "خطّ أحمر". إلا أنه رغم ذلك، فإنه لا يمكن اعتبار عون شخصية مقبولة بالنسبة لـ"حزب الله"، على الرغم من وجود دلائل تشيرُ إلى أن هناكَ تنسيقاً وتكاملاً على أكثر من صعيد.
خلال فترات سابقة وخصوصاً عام 2017 إبّان معركة "فجر الجرود" التي خاضها الجيش ضدّ الجماعات المسلحة في جرود عرسال، تعزّز باب التعاون والتنسيق بين الحزب والمؤسسة العسكريّة، إلّا أنّ الأمور بقيَت ضمن مسافاتٍ مُحدّدة، ولم تدخل في إطار التدخلات أو التنازلات.
مع هذا، فقد ظهرت إشارات عديدة تشير إلى أنّ "حزب الله" لم يسعَ إلى الإطاحة بقائد الجيش بعكسِ ما سعى إليه حليفه "التيار الوطني الحر" الذي سعى للانقضاض على عون. كذلك، كان "حزب الله" على مسافة قريبة من الجيش في مختلف الاستحقاقات المرتبطة بالشارع، فالتعاون قائم وما من تخطّ لقرارات المؤسسة العسكرية خصوصاً تلك المتعلقة بحفظ الأمن في مناطق محسوبة على الحزب وتحديداً في بعلبك، حيثُ تنفذ المؤسسة العسكرية مُداهمات واسعة بين الحين والآخر بحثاً عن مطلوبين ولإحباطِ عمليات صناعة وتهريب المخدرات.
وبمعزل عن هذه الأمور الأساسية، كان "حزب الله" يسعى وبشكل دؤوبٍ لاستمالة قائد الجيش نحوه بطرق عديدة، لكن هذا الأمر لا يعني وجود أي تواصل مباشر. وهنا، تقول مصادر مقربة من "حزب الله" لـ"لبنان24" إنه "لم يجرِ أي تواصلٍ بين عون وحزب الله بشأن ملف رئاسة الجمهورية"، مشيرة إلى أنّ "هذا الأمر - وإن سيحصل - سيُكشف عنه بشكل علني، علماً أن الحزب سيعلن صراحة عن الشخصية التي سيختارها لرئاسة الجمهورية مثلما حصل مع الرّئيس ميشال عون عام 2016".
بشكل أساسي، فإنّ الأولوية للنهوض كبيرة، وهناك آمالٌ كبيرة في أن تكون شخصية رئيس الجمهورية العتيد مُساهمة بشكل فعال في ترميم الدولة من جديد. وحُكماً، الأمرُ هذا يحتاجُ إلى شروط تتوفر في شخصية موثوق بها، وقد يكون قائد الجيش هو الجهة الأساسية التي تمثل تلك الثقة باعتبار أنه يحظى بقبولٍ دولي لاسيما أميركي وفرنسي، وقد كان التمهيدُ كبيراً لهذا الأمر خلال فتراتٍ سابقة غير بعيدة. لكنّ السؤال الذي يُطرح هنا: هل يُقلق التنسيق بين قائد الجيش والأميركيين "حزب الله"؟
في خطابٍ له مطلع شباط الماضي، ألمح الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله بشكل صريح إلى أنّ "هناك حضوراً عسكرياً للأميركيين في اليرزة"، وقال: "السفيرة الأميركيّة دوروثي شيا لا تتعزّل من هناك ولازقة بالجيش".
الإشارة هُنا كانت كفيلة وواضحة من الحزب بأنّ قائد الجيش على تنسيق كبير مع الأميركيين، وقد يكون نصرالله قد أعطى إشارة الرفض بالسير بعون رئيساً للجمهورية منذ ذلك الحين.
المصادر المقربة من "حزب الله" تشير إلى أنّ "الكلام عن عون قطعاً غير وارد"، وتضيف: "قائد الجيش قد يكون ناجحاً في مهامه، لكنّه مقرب من الأميركيين. رئيس الجمهورية هو من أتى به إلى قيادة الجيش، والآن العلاقة بينهما غير سليمة بما يكفي؟".
واستناداً إلى تلك المشهدية، ما يظهر هو أنّ مسار القبول بقائد الجيش قد يحظى بعوائق كثيرة، وما يبدو أكثر هو أنّ "حزب الله" حسمَ أمره بشأن قائد الجيش حتى وإن لم يعلن عن ذلك صراحة. وفي حال كانت خيارات الأطراف الأخرى مرتكزة على عون، فإنّ لعبة الأكثرية النيابية ستطغى من جديد على المشهد خلال أي جلسة لانتخاب رئيس للجمهوريّة، والخيارات هنا باتت تضيق، وبإمكانِ أن يكون تماسك الحلفاء ضمن محور 8 آذار هو الممهد الأكبر للوصول بشخصية إلى بعبدا غير عون، وما جولة انتخاب رئيس لمجلس النواب ونائبه هذا العام بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، سوى دلالة على ذلك الأمر.