أخيرًا، وبعد طول انتظار، أقرّت حكومة الرئيس نواف سلام التعيينات الأمنية والعسكرية التي طال انتظارها، بفعل الفراغ الرئاسي الذي منع الحكومة السابقة من إنجازها، ما جعل الكثير من المراكز الحسّاسة في الدولة تُدار لأشهر طويلة، بالنيابة أو الوكالة، ما عُدّ "خطوة أولى" نحو انتظام المؤسسات الدستورية، الذي يفترض أن يمهّد للإنقاذ الذي يطلبه المواطنون، بانتظار أن تكتمل التعيينات الإدارية والقضائية والمصرفية في وقتٍ غير بعيد.
ففي الجلسة التي عقدت يوم الخميس، أقرّت
الحكومة سلّة التعيينات الأمنية والعسكرية دفعة واحدة، بعدما ساد انطباع بأنّها ستقتصر على مراكز دون غيرها، نتيجة بعض التباينات التي ظهرت مطلع الأسبوع، إذ تمّ تعيين كل من العميد رودولف هيكل قائدًا للجيش، والعميد حسن شقير مديرًا عامًا للأمن العام، والعميد رائد
عبد الله مديرًا عامًا لقوى الأمن الداخلي، والعميد إدغار لاونس مديرًا عامًا لأمن
الدولة، كما عيّن العميد مرشد الحاج سليمان نائباً للأخير.
وعلى الرغم من أنّ
الحكومة أكّدت أنّها استندت في هذه التعيينات إلى "الخبرات والكفاءة"، وفق قول وزير الإعلام بول مرقص خلال تلاوة مقرّرات جلسة مجلس الوزراء، إلا أنّها أثارت جدلاً واسعًا في الأوساط السياسية، التي ذهب بعضها لحدّ اعتبار هذه التعيينات "مخيّبة للآمال"، بل ثمّة من رآها "مناقضة" لمضامين خطاب القسم والبيان الوزاري، وسط تساؤلات طُرِحت حول "الآلية" التي اعتُمِدت، وما إذا كانت تنسجم مع عنوان "الإصلاح" الذي اختارته
الحكومة لنفسها.
توافق "رئاسي" سبق الجلسة
صحيح أنّ التعيينات الأمنية والعسكرية كانت مُنتظَرة منذ وقت طويل، خصوصًا في مراكز حسّاسة كانت "شاغرة"، كالمديرية العامة لأمن
الدولة، وحتى قيادة الجيش، بعد لجوء السلطة السياسية إلى "حيلة" التمديد مرّتين لتفادي الفراغ، قبل أن يُنتخَب قائد الجيش رئيسًا للجمهورية، فيشغر المنصب، إلا أنّ "حدث" التعيينات مرّ بسلاسة في مجلس الوزراء، من دون أيّ تحفّظات أو اعتراضات تُذكَر، ولكن أيضًا من دون "آليّة واضحة".
ولعلّ هذا بالتحديد ما أثار الجدل في
الكثير من الأوساط السياسية، حيث اعتبر كثيرون أنّ هذه التعيينات لم تكن "على قدر التوقعات" التي رفع العهد الجديد سقفها بنفسه، فإذا به يكرّر تمامًا مسار
الكثير من العهود السابقة، ولا سيما أنّ مجلس الوزراء صادق عمليًا على التعيينات التي كان الاتفاق قد جرى عليها سلفًا في اجتماعات ماراثونية عقدت بين رؤساء الجمهورية جوزاف عون، والحكومة نواف سلام، ومجلس النوب نبيه بري.
بهذا المعنى، يقول العارفون إنّ "توافقًا رئاسيًا" تمّ بين الرؤساء الثلاثة وأفضى إلى إقرار التعيينات في مجلس الوزراء بهذا الشكل، في مشهد لا يبدو جديدًا، بل مكرّرًا، وربما مستنسَخًا، ولا سيما أنّه كرّس في مكان ما مبدأ "المحاصصة والمحسوبيات"، بدليل خروج كلّ طرف راضيًا، وقد حصل على ما يريد، حتى إنّ بعض التسريبات تحدّثت عن "عملية مقايضة" جرت بين مركزين، من أجل "إرضاء" جميع الأطراف.
بين الكفاءة والمحاصصة..
هكذا، بدت الصورة التي انبثقت عن التعيينات الأمنية والعسكرية "مألوفة" إلى حدّ بعيد، على طريقة "المحاصصة" التقليدية، من دون أن تتبع أيّ "آلية" واضحة ومحدّدة، وكأنّ كلّ
رئيس "اختار" القائد الأمني المحسوب عليه، أو على طائفته، إن صحّ التعبير، ولو أنّ هناك من رفض هذا المنطق، من خلال الحديث عن "معايير خاصة" تتبع لها هذه التعيينات، التي يعود القرار فيها إلى الرؤساء الثلاثة، وهي تختلف عن سائر التعيينات المنتظرة.
إلا أنّ هذا الرأي اصطدم برأي آخر، انطلق أصحابه من "حقيقة" أنّ
الحكومة لم تقرن أقوالها في البيان الوزاري، كما في خطاب القسم، إلى أفعال، فجاءت تعييناتها في هذا السياق "مخيّبة"، أو بالحدّ الأدنى "غير مبشّرة"، وذلك بمعزل عن "كفاءة" القادة الأمنيين والعسكريين الذين تمّ تعيينهم، ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ "الثنائي الشيعي" مثلاً حصل على كلّ ما يريد، حتى إنّه تمّت "مراضاته" بمركز بديل لمن لم يعيَّن في المركز الأصيل.
وفي هذا السياق، كان لافتًا خروج أصوات مؤيّدة للعهد الجديد، أو حتى من ضمن الدائرة "الضيقة" المقرّبة من
رئيس الحكومة مثلاً، لتنتقد المسار الذي حصل، باعتبار أنّه لا يمكن تبريره بـ"الواقعية السياسية" كما حصل مثلاً في تأليف
الحكومة، وضرورة إشراك بعض الأطراف فيها، ولو أنّ هناك من يرى أنّ "المحكّ الأساسي" يبقى في سائر التعيينات، التي ستشكّل الامتحان "الأكبر" على
الحكومة بعد "بروفا" التعيينات.
صحيح أنّ "جدل" التعيينات الأمنية والعسكرية لن يصمد طويلاً، باعتبار أنّ المهمّ يبقى أنّ
الحكومة أنجزت هذه التعيينات، ولم تؤجّلها، كما كان التوجّه، بفعل التباينات من هنا أو هناك، والمطلوب الآن الانصراف إلى العمل. إلا أنّها بالتأكيد سترخي بثقلها على "التحديات المقبلة"، بما في ذلك التعيينات القضائية والإدارية والمصرفية، والتي مهّدت لها
الحكومة بالحديث عن آلية ستقرّ الأسبوع المقبل، ولو أنّ بعض الأسماء بدأت تتسرّب قبل ذلك!